الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } * { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } * { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } * { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰناً فَأَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }

ولما بصرهم قصور صغير الكواكب، رقي النظر إلى أكبر منه، فسبب عن الإعراض عن الكواكب لقصوره قولَه: { فلما رأى القمر بازغاً } أي طالعاً أول طلوعه؛ قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البزغ الذي هو الشق، كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً { قال هذا ربي } دأبَه في الأولى.

ولما كان تأمل أن الكوكب محل الحوادث بالأفول قد طرق أسماعهم فخالج صدورهم، قال: { فلما أفل قال } مؤكداً غاية التأكيد { لئن لم يهدني ربي } أي الذي قدر على الإحسان إليّ بالإيجاد والتربية لكونه لا يتغير ولا شريك له بخلق الهداية في قلبي، فدل ذلك على أن الهداية ليست إلى غيره، ولا تحمل على نصب الأدلة، لأنها منصوبة قبل ذلك، ولا على معرفة الاستدلال فإنه عارف به { لأكونن } أي بعبادة غيره { من القوم الضالين * } فكانت هذه أشد من الأولى وأقرب إلى التصريح بنفي الربوبية عن الكواكب وإثبات أن الرب غيرها، مع الملاطفة وإبعاد الخصم عما يوجب عناده.

ولما كان قد نفي عن الأجرام السماوية ما ربما يضل به الخصم قال: { فلما رأى } أي بعينه { الشمس بازغة } أي عند طلوع النهار وإشراق النور الذي ادعوا فيه ما ادعوا { قال } مبيناً لقصور ما هو أكبر من النور وهو ما عنه النور { هذا } مذكراً إشارتَه لوجود المسوغ، وهو تذكير الخبر إظهاراً لتعظيمها إبعاداً عن التهمة، وتنبيهاً من أول الأمر على أن المؤنث لا يصلح للربوبية { ربي } كما قال فيما مضى؛ ثم علل ذلك بياناً للوجه الذي فارق فيه ما مضى فأورث شبهة، فقال: { هذا أكبر } أي مما تقدم { فلما أفلت } أي غربت فخفي ظهورها وغلب نورها وهزمه جيش الظلام بقدرة الملك العلام { قال يا قوم } فصرح بأن الكلام لهم أجمعين، ونادى على رؤوس الأشهاد.

ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة، وتهيأت لقبول الحق، ختم الآية بقوله: { إني بريء مما تشركون * } أي من هذا وغيره من باب الأولى، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور، فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر، والمراد هم، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت: { إني وجهت وجهي } أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز، فقال: { للذي فطر } أي لأجل عبودية من شق وأخرج { السماوات والأرض } فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله " الذي خلق السماوات والأرض " وأدل دليل على ما تقدم - أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها - قولُه بعد نصب هذا الدليل: { حنيفاً } أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد، وأكد البراءة منهم بقوله: { وما أنا من المشركين } أي منكم، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به.

السابقالتالي
2 3 4