الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } * { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } * { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فتسلّ واصبر كما صبروا، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله: { وإن كان كبر } أي عظم جداً { عليك إعراضهم } أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولناوما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [الأنعام: 4] وأردت أن تنتقل - في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات - من علم اليقين إلى عين اليقين { فإن استطعت أن تبتغي } أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك { نفقاً } أي منفذاً { في الأرض } تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه { أو سلماً في السماء } أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه { فتأتيهم بآية } أي ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك، لأن الله قد شاء ضلال بعضهم، والمراد بهذا بيان شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل.

ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته فقال: { ولو شاء الله } أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة { لجمعهم على الهدى } أي لأن قدرته شاملة، وإيمانهم في حد ذاته ممكن، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم - بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره - حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة - كما أفاده الحرالي - من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم، سبب عن ذلك قوله: { فلا تكونن } فأكد الكلام سبحانه ليعلم صلى الله عليه وسلم أنه قد حتم بافتراقهم، فيسكن إلى ذلك ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم { من الجاهلين * } أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً! فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه، فإن ما شاءه لا يكون غيره، فهذه الآية وأمثالها - مما في ظاهره غلظة - من الدلالة على عظيم رتبته صلى الله عليه وسلم ومن لطيف أمداح القرآن له - كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى

السابقالتالي
2 3