الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } * { وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } * { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ }

ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره، فقال تحقيقاً لذلك، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب: { قد خسر } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال: { الذين كذبوا بلقاء الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم { حتى إذا جاءتهم الساعة } أي الحقيقة، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته، وحذرهم منها بقوله: { بغتة } أي باغتة، أو ذات بغتة، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور { قالوا يا حسرتنا } أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام! فإنه لا نديم لنا سواك، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه، لينتهي الإنسان عن أسبابها { على ما فرطنا } أي قصرنا { فيها } أي بسبب الساعة، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا، فأعرضوا عما دعوا إليه من تزكية النفس، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء، فلا رأس مال ولا ربح، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة، ولا خسران أعظم من هذا.

ولما كان هذا أمراً مفظعاً، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال: { وهم } أي وقالوا ذلك والحال أنهم { يحملون أوزارهم } أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل، وحقق الأمر وصوره بقوله: { على ظهورهم } لاعتقاد الحمل عليه، كما يقال: ثقل عليك كلام فلان، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً، فيكلفوا حملها؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام: { ألا ساء ما يزرون * }.

فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد، ولم يبق فيه لذي لب وقفة، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال، عكس ما كانوا يقولون: { وما الحياة الدنيا }.

السابقالتالي
2 3 4