ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه، أعلم أنه يستحقه وحده فقال: { لا شريك له } أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية، فأبان بهذا أن وجهه صلى الله عليه وسلم ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة. ولما دل على ذلك ببرهان العقل، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره: إلى ذلك أرشدني دليل العقل: { وبذلك } أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص. ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله، بني للمفعول قوله: { أمرت } أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان ينبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من الدلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية { وأنا أول المسلمين * } أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين، لا اختيار لي أصلاً، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول. ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه، وكان آخر ذلك أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً، وأيأس الكفار من موافقته صلى الله عليه وسلم لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل، أمره سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة، والتوبيخ الشديد فقال: { قل } أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم { أغير الله } أي الذي له الكمال كله { أبغي } أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً { رباً } أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم، والإسناد إليه صلى الله عليه وسلم - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف { وهو } أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع { رب كل شيء } أي موجده ومربيه، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه.