الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

ولما أخبر أن أمرهم ليس إلا إليه، كان كأنه قيل: فماذا يفعل بهم حينئذ؟ فأجيب بقوله: { من جاء } أي منهم أو من غيرهم { بالحسنة } أي الكاملة بكونها على أساس الإيمان { فله } من الحسنات { عشر أمثالها } كرماً وإحساناً وجوداً وامتناناً، يجازيه بذلك في الدنيا أو في الآخرة، وهذا المحقق لكل أحد ويزداد البعض وضوحاً بحسب النيات، وذكر العشر، لأنه بمعنى الحسنة، وهو مضاف إلى ضميرها. ولما تضمن قولهوأوفوا الكيل والميزان بالقسط } [الأنعام: 153] مع تعقيبه بقولهلا نكلف نفساً إلاّ وسعها } [الأنعام: 152] الإشارة إلى أن المساواة في الجزاء مما ينقطع دونه أعناق الخلق، أخبر أن ذلك عليه هين لأن عمله شامل وقدرته كاملة بقوله: { ومن جاء بالسيئة } أي أيّ شيء كان من هذا الجنس { فلا يجزى } أي في الدارين { إلا مثلها } إذا جوزي، ويعفو عن كثير.

ولما كانت المماثلة لا يلزم كونها من كل وجه وإن كانت ظاهرة في ذلك لا سيما في هذه العبارة، صرح بما هو ظاهره لأنه أطيب للنفس وأسكن للروع فقال: { وهم لا يظلمون * } أي بكونها مثلها في الوحدة وإن كانت أكبر أو من جنس أشد من جنسها ونحو ذلك، بل المماثلة موجودة في الكم والكيف، فلا ينقص أحد في ثواب ولا يزاد في عقاب.

ولما تضمن ما مضى تصحيح التوحيد بالأدلة القاطعة وتحقيق أمر القضاء والقدرة وإبطال جميع أديان الضلال ووصفها بتفرق أهلها الدال على بطلانها واعوجاجها، وختم بهذا التحذير الذي لا شيء أقوم منه ولا أعدل، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعلان بأمره وأن يصف دينه الذي شرعه له وهداه إليه بما فيه من المحاسن تحبيباً فيه وحثاً عليه ولأن ذلك من نتيجة هذه السورة فقال: { قل } وأكد بالإتيان بالنونين فقال: { إنني هداني } أي بياناً وتوفيقاً { ربي } أي المحسن إليّ بكل خير لا سيما هذا الذي أوحاه إليّ وأنزله عليّ { إلى صراط مستقيم * } أي طريق واسع بين، ثم مدحه بقوله: { ديناً قيماً } أي بالغ الاعتدال والاستقامة ثابتها، هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة، وهو في قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الياء الخفيفة مصدر بمعنى القيام وصف به للمبالغة، وزاده مدحاً بقوله مذكراً لهم - لتقليدهم الآباء - بأنه دين أبيهم الأعظم: { ملة إبراهيم } والملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظُلَم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا - أفاده الحرالي. ولذلك قال: { حنيفاً } أي ليناً هيناً سهلاً قابلاً للاستقامة لكونه ميالاً مع الدليل غير جاف ولا كز واقف مع التقليد عمى عن نور الدليل - كما تقدم ذلك في البقرة، وهو معنى قوله: { وما } أي والحال أنه ما { كان من المشركين * } أي الجامدين مع أوهامهم في ادعاء شريك لله مع رؤيتهم له في كونه لا يضر ولا ينفع ولا يصلح لشركة آدمي فضلاً عن غيره بوجه، لا ينقادون لدليل ولا يصغون إلى قيل، فكان هذا مدحاً لهذا الدين الذي هدى إليه صلى الله عليه وسلم وبياناً لأنه الذي اختاره سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام رجوعاً إلى

السابقالتالي
2