الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

ولما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك، وبين فساده بالدلائل النيرة، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره، فليس التحريم لأحد غيره فقال: { قل تعالوا } أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال؛ قال صاحب الكشاف: هو من الخاص الذي صار عاماً، يعني حتى صار يقوله الأسفل للأعلى { أتل } أي أقرأ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً. ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك، وكان المحرم أهم، قدمه فقال: { ما حرم ربكم } أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم { عليكم } فسخطه منكم، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها، فقال: { ألا تشركوا به شيئاً } الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل، فإن التقية بالحمية قبل الدواء، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم: { وبالوالدين } أي افعلوا بهما { إحساناً }.

ولما أوصى بالسبب في الوجود، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال: { ولا تقتلوا أولادكم } ولما كان النهي عاماً، وكان ربما وجب على الولد قتل، خص لبيان الجهة فقال: { من إملاق } أي من أجل فقر حاصل بكم، ثم علل ذلك، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال: { نحن نرزقكم } بالخطاب، أي أيها الفقراء، ثم عطف عليه الأبناء فقال: { وإياهم } وظاهر قوله في الإسراءخشية إملاق } [الإسراء: 31] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر، فبدأ بالأولاد فقال: " نحن نرزقهم " ثم عطف الآباء فقال " وإياكم " - نبه عليه أبو حيان.

ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش، وهي ما غلظت قباحته، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال: { ولا تقربوا الفواحش } ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله: { ما ظهر منها } أي الفواحش { وما بطن } ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } أي الملك الأعلى عليكم قتلها { إلا بالحق } أي الكامل، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله: { ذلكم } أي الأمر العظيم في هذه المذكورات.

السابقالتالي
2