الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعاً للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك، ومن حكم عن غير أمره عذب؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئاً بالتشهي مضل وظالم قولُه مبيناً البيان الصحيح لما يحل ويحرم جواباً لمن يقول: فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله: { قل } معلماً بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله { لآ أجد } أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، فإن " لا " كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال { في مآ }.

ولما كان ما آتاه صلى الله عليه وسلم قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله، بني للمفعول قوله: { أوحي إليّ } أي من القرآن والسنة شيئاً مما تقدم مما حرمتموه مطلقاً أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاماً { محرماً على طاعم } أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى { يطعمه } أي يتناوله أكلاً وشرباً أو دواء أو غير ذلك { إلا أن يكون } أي ذلك الطعام { ميتة } أي شرعاً، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية { أو دماً مسفوحاً } أي مراقاً من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال.

ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير ديناً، نص عليه وإن كان داخلاً في قوله " ميتة " على ما قررته في المراد بها، وقال: { أو لحمِ خنزير } ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا، ولو قيل: أو خنزيراً لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حياً فقط، وقال: { فإنه } أي الخنزير { رجس } ليفيد نجاسة عينه وهو حي، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجساً، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه، فلو عاد عليه كان تكراراً.

ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض، فقال مبالغاً في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله: { أو فسقاً } أي أو كان الطعام خروجاً مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل، وهلك وتوى؛ ثم قال مفسراً له مقدماً لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير: { أهل لغير الله } أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله { به } أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تديناً؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وستراً لتقصيرهم فقال: { فمن اضطر } أي حصل له جوع خشي منه التلف، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطراً { غير باغ } أي على غيره بمكيدة { ولا عاد } أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة { فإن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة { غفور } أي يمحو الذنب إذا أراد { رحيم } أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له - في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته - أجراً عظيماً، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير، وذلك هو سبب تحريمها؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف - أي حرف الحرام - طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريماً وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه، ورين على القلب أو صفاء، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5