الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ }

ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم، وأشار إلى معانيها، جمعها - وصرح بما أثمرته من الخيبة - في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال: { قد خسر } وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: { الذين قتلوا } قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف { أولادهم سفهاً } أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً.

ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، قال مصرحاً بما أفهمه: { بغير علم } أي وأما من قتل ولده بعلم - كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً - فليس حكمه كذلك؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال: { وحرموا ما رزقهم الله } أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم، من تلك الأنعام والغلات، بغير شرع ولا نفع بوجه { افتراء } أي تعمداً للكذب { على الله } أي الذي له جميع العظمة.

ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات: النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين، كانت نتيجته قوله: { قد ضلوا } أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله: { وما كانوا } أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق { مهتدين * } أي لم يكن في كونهم وصف الهداية، بل زادوا بذلك ضلالاً؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه: حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً } - إلى قوله: { وما كانوا مهتدين }. وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب.

ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس - إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم، قال في موضع الحال من

السابقالتالي
2 3