الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } * { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } * { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }

ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز تعالى ذلك في قالب الأمر له صلى الله عليه وسلم بالإنكار على نفسه، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة، فكأنهم قالوا: فهل من سبيل إلى المواقة؟ فقيل: لا إلا باتخاذكم إلهي ولياً، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين، وبتطمعكم في اتخاذي أندادكم أولياء، وهذا ما لا يكون أبداً، وهو معنى قوله تعالى: { قل } أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل إلى أندادهم بوجه.

ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً، لا إلى اتخاذ الولي، أولى " غير " الهمزة فقال: { أغير الله } أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة { أتخذ } أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ { ولياً } أي أعبده لكونه يلي جميع أموري، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال: { فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق { وهو } أي والحال أن الله { يطعم } أي يرزق كل من سواه مما فيه روح.

ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم، لا كون ذلك من مطعم معين، بني للمفعول قوله: { ولا يطعم } أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه، والمعنى أن المنافع من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه، وهو سبحانه الغني على الإطلاق، وهذا التفات إلى قوله تعالى:ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } [المائدة: 75] وتعريض بكل ما عبد من دون الله ولا سيما الأصنام، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها الدواب والطيور، فمعلوم أنها لا تطعم ولا تطعم روى الدارمي في أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال: " حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: فمنعني أن آكل الزبد مخافتها، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم " ومولاه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، واختلف فيه فقيل: هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وقيل: قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم. وقيل: ابنه عبد الله بن السائب - والله أعلم؛ وله عن أبي رجاء - هو العطاردي وهو مخضرم - قال: " كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجراً حسناً عبدناه، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة من رمل، ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها فنحلبها على الكثبة حتى نرويها، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان " وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها، وسيأتي التصريح بذلك في قوله:

السابقالتالي
2 3