الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }

مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتابُ في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام، لأن الإذن فيها - كما يأتي - مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق، تضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها ديناً، لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه، لأنه المتوحد بالإلهية، لا شريك له، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جُلُّها في هذا الدين وغيره، فدل ذلك على إحاطة علمه، وسيأتي في سورة طه البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات، وذلك عين مقصود السورة، وقد ورد من عدة طرق - كما بينتُ ذلك في كتابي " مصاعد النظر " أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح، وفي رواية: إن نزولها كان ليلاً، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها. وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين، وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة، وأن تعلّمه واجب على الفور لنزولها جملة، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح، ولنزولها ليلاً دليلٌ على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات، أولو الألباب أهل الخلوات، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل. { بسم الله } الذي بين دلائل توحيده بأنه الجامع لصفات الكمال { الرحمن } الذي أفاض على سائر الموجودات من رحمته بالإيجاد والإعدام ما حيَّر لعمومه الأفهام، فضاقت به الأوهام { الرحيم * } الذي حبا أهل الإيمان بنور البصائر حتى كان الوجود ناطقاً لهم، بالإعلام بأنه الحي القيوم السلام. { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال { لله }.

لما ختم سبحانه تلك بتحميد عيسى عليه السلام لجلاله في ذلك اليوم في ذلك الجمع، ثم تحميد نفسه المقدسة بشمول الملك والقدرة، إذ الحمد هو الوصف بالجميل؛ افتتح سبحانه وتعالى هذه السورة بالإخبار بأن ذلك الحمد وغيره من المحامد مستحق له استحقاقاً ثابتاً دائماً قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده سواء شكره العباد أو كفروه، لما له سبحانه وتعالى من صفات الجلال والكمال - على ما تقدمت الإشارة إليه في الفاتحة - فأتى بهذه الجملة الاسمية المفتتحة باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أنواعه الدالة على الاستغراق، إما بأن اللام له عند الجمهور، أو بأنها للجنس - كما هو مذهب الزمخشري، ويؤول إلى مذهب الجمهور، فإن الجنس إذا كان مختصاً به لم يكن فردٌ منه لغيره، إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده، فمتى وجد فرد منه لغيره كان الجنس موجوداً فيه فلم يكن الجنس مختصاً به وقد قلنا: إنه مختص، وهذا التحميد صار بوصفه فرداً من أفراد تحميد الفاتحة تحقيقاً لكونها أمّاً، وعقبها سبحانه بالدليل الشهودي على ما ختم به تلك من الوصف بشمول القدرة بوصفه بقوله: { الذي خلق }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8