الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ }

ولما كانت الصدقة كالبذر الذي تقدم أن الله تعالى يحييه ويضاعفه أضعافاً كثيرة على حسب زكاء الأرض، قال منتجاً مما مضى ما يعرف أن من أعظم ما دل على الخشوع المحثوث عليه والبعد عن حال الذين أوتوا الكتاب في القسوة الصدقة بالإنفاق الذي قرنه في أولها بالإيمان، وحث عليه في كثير من آياتها تنبيهاً على أنه ثمرته التي لا تخلف عنه، معبراً عنه بما يرشد إلى أنه المصدق لدعواه، وأكده لمن يشك في البعث من إنكار بركة الصدقة عاجلاً أو آجلاً تقيداً بالمحسوسات: { إن المصدقين } أي العريقين في هذا الوصف من الرجال { والمصدقات } أي من النساء بأموالهم على الضعفاء الذين إعطاؤهم يدل على الصدق في الإيمان لكون المعطى لا يرجى منه نفع دنيوي، ولعله أدغم إشارة إلى إخفاء الإكثار من الصدقة حتى تصير ظاهرة، وقراءة ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف تدل مع ذلك على التصديق بالإيمان، فكل من القراءات يدل عليهما، ومن التفصيل بذكر النوعين تعرف شدة الاعتناء.

ولما كانت صيغة التفعل تدل على التكلف حثاً على حمل النفس على التطبع بذلك حتى يصير لها خلقاً في غاية الخفة عليها فقال عاطفاً على صلة الموصول في اسم الفاعل معبراً بالماضي بعد إفهام الوصف الثبات دلالة على الإيقاع بالفعل عطفاً على ما تقديره موقعاً ضميراً المذكر على الصنفين تغليباً الذين صدقوا إيمانهم بالتصدق: { وأقرضوا الله } الذي له الكمال كله بتصديقهم سواء كانوا من الذكور أو الإناث، وإنفاقهم في كل ما ندب إلى الإنفاق فيه، وأكد ووصف بقوله: { قرضاً حسناً } أي بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية في الصدقة والنفقة في سبيل الخير، وحسنه أن يصرف بصره إلى النظر إلى فعله والامتياز به وطلب العوض عليه، قال الرازي: { يضاعف } أي ذاك القرض { لهم } ويثابون بحسب تلك المضاعفة لأن الذي كان القرض له سبحانه حليم كريم ولا يرضى في الخير إلا بالفضل، وثقل في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب دلالة على المبالغة في التكثير، وعبر بالمفاعلة في قراءة الجماعة لإفهام أن تلك الكثرة مما لا بد من كونه، وأنه عمل فيه عمل من يباري آخر ويغالبه، وبنى للمفعول دلالة على باهر العظمة اللازم عنه كونه بغاية السهولة { ولهم } أي مع المضاعفة { أجر كريم * } أي لا كدر فيه بانقطاع ولا قلة ولا زيادة بوجه من الوجوه أصلاً.

ولما بين سبحانه وتعالى أن الصدقة كالبذر الذي هو من أحسن الأرباح وأبهجها، بين الحامل عليها ترغيباً فيها، فقال عاطفاً بالواو، إشارة إلى التمكن في جميع هذه الصفات: { والذين آمنوا } اي أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم { بالله } أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام { ورسله } اي كلهم لما لهم من النسبة إليه، فمن كذب بشيء على أحد منهم أوعمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به { أولئك } أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية { هم } أي خاصة لا غيرهم { الصديقون } أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه، وقال القشيري: الصديق من استوى ظاهره وباطنه، ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص، ولا يحتاج للتأويلات، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة الشهادة قال تعالى: { والشهداء } معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين، قال القشيري: هم الذين يشهدون بقلوبهم بواطن الوصل ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القربة، وزاد المر عظماً بقوله: { عند ربهم } أي الذي أحسن إليهم بالقربة بمثل تلك الرتبة العالية من الشهادة لله بكل ما أرسل به رسله، والأنبياء الماضين على أممهم والحضور في جميع الملاذ بالشهادة في سبيل الله، قال مجاهد: كل مؤمن صديق وشهيد - وتلا هذه الآية { لهم } أي جميع من مضى من الموصوفين بالخير { أجرهم } أي الذي جعله ربهم لهم { ونورهم } أي الذي زادهموه من فضله برحمته، أولئك أصحاب النعيم المقيم.

السابقالتالي
2 3 4