الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } * { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } * { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ }

ولما كان في سياق بيان الرحمة بمزيد الإنعام، وكان إقامة البينة أعظم نعمة، وكانت الفواكه ألذ ما يكون، وكانت برقتها وشدة لطافتها منافية للأرض في يبسها وكثافتها، فكان كونها فيها عجباً دالاً على عظيم قدرته، وكان ذكرها يدل على ما تقدمها من النعم من جميع الأقوات، بدأ بها ليصير ما يتقدمها كالمذكور مرتين، فقال مستأنفاً وصفها بما هو أعم: { فيها فاكهة } أي ضروب منها عظيمة جداً يدرك الإنسان بما له من البيان تباينها في الصور والألوان، والطعوم والمنافع - وغير ذلك من بديع الشأن.

ولما كان المراد بتنكيرها تعظيمها، نبه عليه بتعريف بنوع منها، ونوه به لأن فيه مع التفكه التقوت، وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأول فقال: { والنخل } ودل على تمام القدرة بقوله: { ذات } أي صاحبة { الأكمام * } أي أوعية ثمرها، وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، وكل نبت يخرج ما هو مكمم فهو ذو كمام، ولكنه مشهور في النخل لشرفه وشهرته عندهم، قال البغوي: وكل ما ستر شيئاً فهو كم وكمة، ومنه كم القميص، وفيه تذكير بثمر الجنة الذي ينفتق عن نباهم، وذكر أصل النخل دون ثمره للتنبيه عن كثرة منافعه من الليف والسعف والجريد والجذوع وغيرها من المنافع التي الثمر منها.

ولما ذكر ما يقتات من الفواكه وهو في غاية الطول، أتبعه الأصل في الاقتيات للناس والبهائم وهو بمكان من القصر، فقال ذاكراً ثمرته لأنها المقصودة بالذات: { والحب } أي من الحنطة وغيرها، ونبه على تمام القدرة بعد تنبيه بتمايز هذه المذكورات مع أن أصل الكل الماء بقوله: { ذو العصف } أي الورق والبقل الذي إذا زال عنه ثقل الحب كان مما تعصفه الرياح التي تطيره، وهو التبن الذي هو من قوت البهائم.

ولما كان الريحان يطلق على كل نبت طيب الرائحة خصوصاً، وعلى كل نبت عموماً، أتبعه به ليعم ويخص جميع ما ذكر من سائر النبات وغيره على وجه مذكر بنعمه بغذاء الأرواح بعد ما ذكر غذاء الأشباح فقال: { والريحان * } ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بانكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله { الأنام } قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها: { فبأي آلاء } أي نعم عطايا { ربكما } أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته { تكذبان * } فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس، وأن لهم من ذلك ما لهم، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6