الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } * { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } * { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } * { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } * { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } * { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } * { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }

ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه، علل ذلك منبهاً على أن الكل فعله، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم، فقال: { إنا } أي بما لنا من العظمة { كل شيء } أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرها وكبيرها.

ولما كان هذا التعميم في الخلق أمراً أفهمه النصب، استأنف قوله تفسيراً للعامل المطوي وإخباراً بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم { خلقناه بقدر * } أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة - فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحوولو شاء الله ما أشركنا } [الأنعام: 148] فقد أوصلكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا، ولا يقال لشيء قدرناه: لم؟ قال الرازي في اللوامع: الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته - انتهى. ولا يكون شيء من أمره سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافاً لا بقدر وعدل، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافاً مضاعفة، وقرئ في الشواذ برفع " كل " وجعله ابن جني أقوى من النصب، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال.

ولما بين أن كل شيء بفعله، بين يسر ذلك وسهولته عليه فقال: { وما أمرنا } أي كل شيء أردناه وإن عظم أثره، وعظم القدر وحقر المقدورات بالتأنيث فقال: { إلا واحدة } أي فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك إحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الأرادة الأزلية، ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما يعقله وأخفه فقال؛ { كلمح بالبصر * } فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال كلها، بل أيسر من ذلك.

ولما أخبر بتمام قدرته، وكان إهلاك من ذكر من الكفار وإنجاء من ذكر من الأبرار في هذه السورة نحواً مما ذكر من أمر الساعة في السهولة والسرعة، دل على ذلك بإنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه فذكر بهم جملة وبما كان من أحوالهم بأيسر أمر لأن ذلك أوعظ للنفوس وأزجر للعقول، فقال مقسماً تنبيهاً على عادتهم في الكفر مع هذا الوعظ فعل المكذب بهلاكهم لأجل تكذيبهم عاطفاً على ما تقديره: ولقد أنجينا رسلنا وأشياعهم من كل شيء خطر: { ولقد أهلكنا } أي بما لنا من العظمة { أشياعكم } الذين أنتم وهم شرع واحد في التكذيب، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فلذلك سبب عنه قوله: { فهل من مدكر * } أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعاف.

السابقالتالي
2 3