الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } * { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } * { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }

ولما كان الدنو من الحضرة الإلهية - التي هي مهيئة لتلقي الوحي - من العلو والعظمة بحيث لا يوصف، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: { ثم } أي بعد ذلك الاستواء العظيم { دنا } أي جبرائيل عليه السلام من الجناب الأقدس دنو زيادة في كرامة لا دنو مسافة، وكل قرب يكون منه سبحانه فهو مع أنه منزه عن المسافة يكون على وجهين: قرب إلى كل موجود من نفسه، وقرب ولاية حتى يكون سمع الموجود وبصره بمعنى أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يرضاه - أشار إليه ابن برجان، فأخذ الوحي الذي أذن له في أخذه في ذلك الوقت { فتدلّى } عقب ذلك من الله رسولاً إلى صاحبكم أي أنزل إليه نزولاً هو فيه كالمتدلي إليه بحبل فوصل إليه ولم ينفصل عن محله من الأفق الأعلى لما له من القوة والاستحكام، قال البيضاوي: فإن التدلي هو استرتسال مع تعلق كتدلي الثمرة { فكان } في القرب من صاحبكم في رأي من يراه منكم { قاب } أي على مسافة قدر { قوسين } من قسيكم، قال الرازي في اللوامع: أي بحيث الوتر في القوس مرتين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: القوس الذراع بلغة أزدشنوءة، وقال ابن برجان: قاب القوسين: ما بين السيين، وقيل: ما بين القبضة والوتر { أو أدنى * } بمعنى أن الناظر منكم لو رآه لتردد وقال ذلك لشدة ما يرى له من القرب منه صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في الإيمان من صحيحه عن الشيباني قال: " سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى { فكان قاب قوسين } فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل عليه السلام له ستمائة جناح " { فأوحى } أي ألقى سراً من كلام الله بسبب هذا القرب، وعقبه بقوله: { إلى عبده } أي عبد الله، وإضماره من غير تقدم ذكره صريحاً لما هو معلوم مما تقدم في آخر الشورى أن كلام الله يكون وحياً بواسطة رسول يوحي بإذنه سبحانه، والمقام يناسب الإضمار لأن الكلام هو الوحي الخفي، وعبر بالبعد إشارة إلى أنه لم يكن أحد ليستحق هذا الأمر العظيم غيره لأنه لم يتعبد قط لأحد غير الله، وكل من عاداه حصل منهم تعبد لغيره في الجملة، فكان أحق الخلق بهذا الوصف مع أنه كان يتعبد لله في غار حراء وغيره، وهذه النزلة - والله أعلم - كانت على هذا التقدير في أول الوحي لما كان بحراء وفرق منه صلى الله عليه وسلم فرجع ترجف بوادره، وقال: زملوني زملوني. وأشار إلى عظمة ما أنزل بقوله: { ما أوحى * } أي إنه يجل عن الوصف فأجمل له ما فصل له بعد ذلك، هذا الذي ذكر من تفسير لضمائر مظاهر العبارة وإن كان الإضمار في جميع الأفعال لا يخلو عن التباس وإشكال، ويمكن لأجل احتمال الضمائر لما يناسبها من الظواهر أن يكون ضمير { دنا } وما بعده لله تعالى، وحينئذ يصير في { عبده } واضحاً كما تقدم في هذا الوجه جعله له سبحانه لأنه لا يجوز لغيره، روى البخاري في التوحيد في باب { وكلم الله موسى تكليماً } عن أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة " أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم ": أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، وكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه، ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قالوا: ومن معك، قال: معي محمد، قالوا: وبعث إليه، قال: نعم، قالوا: فمرحباً به وأهلاً - ثم ذكر عروجه إلى السماوات السبع، وأنه لما وصل إلى السماء السابعة علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى منه فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما يوحي الله إليه خمسين صلاة - فذكر مشورة موسى عليهما السلام في سؤال التخفيف حتى صارت خمساً كل واحدة بعشرة، ودنا الجبار رب العزة في هذا الوجه وهو رب العزة " وهو في غاية الحسن إذا جمعته مع ما يأتي في هذا الوجه المنقول عن جعفر الصادق رضي الله عنه فيكون المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما استوى بالأفق الأعلى فوصل إلى حد لا يمكن المخلوق الصعود عنه تنزل له الخالق سبحانه، ولذلك عبر عنه بـ { ثم } يعني أنه سبحانه تنزل له تنزلاً لا يمكن الاطلاع على كنه رتبته في العلو والعظمة، ثم نزل ثم تنزل.

السابقالتالي
2 3