الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلطُّورِ } * { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } * { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } * { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } * { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } * { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } * { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } * { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } * { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } * { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً }

لما ختمت الذاريات بتحقيق الوعيد، افتتحت هذه بإثبات العذاب الذي هو روح الوعيد، فقال تعالى: { والطور * } وذلك أنهم لما كانوا يقولون عما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه سحر خيال لا حقيقة له، أقسم بالجبل - الذي هو عندهم وعند غيرهم من ذوي العقول - أثبت الأرض وأشدها وأصلبها، وعبر عنه بالطور الذي هو مشترك بين مطلق الجبل وبين المضاف إلى سينا الذي كان فيه نبوة موسى عليه السلام وإنزال كثير من كتابه وغير ذلك - آيات تعلمها بنو إسرائيل الذين يستنصحونهم ويسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرضون بقولهم فيه فمن آياته أنه كانت فيه الرحمة بمناجاة موسىعليه السلام وما كتب له فيه على ألواح الجوهر وما أنزل عليه من الناموس الذي جعله هدى ورحمة وموعظة وذكراً وتفصيلاً لكل شيء وكان فيه مع الرحمة العذاب بما أتاهم من الصاعقة التي أماتتهم ثم أحياهم الله وبما كانوا يشهدون من السحاب الذي تخلله فيكون كقتار الأتون، وفيه بروق كأعظم ما يشاهد من النار، وأبواق تزعق بصوت هائل، ولما شوهد من اندكاك لجبل عند التجلي وصعق موسى عليه السلام إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف الظلمات، وأيضاً فالطور كل جبل ينبت، وإنبات الجبل عجيب، فإن نباته لا يكون إلا بسبب، وسبب النبات الماء، والماء منبث في الأرض لتركبها عليه وهو مواز لما انكشف منه من ماء البحار، وكلما علت الأرض بعدت عن الماء، والجبال أبعدها منه، فسبب إنباته خفي جداً لا يعلمه إلا الله ومن فهمه إياه.

ولما كانت الأرض لوح السماء التي منها الوعيد، وكانت الجبال أشدها، فذكر أعظمها آية، وكان الكتاب لوح الكاتب، وكانت الكتب الإلهية أثبت الكتب، وكان طور سينا قد نزل كتاب إلهي قال: { وكتاب } وحقق أمره بقوله: { مسطور * } أي متفق الكتابة بسطور مصفوفة من حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة ككتاب موسى عليه السلام الذي أنزله عليه وكلمه بكثير منه في الطور وتنكيره للتعظيم لأنه إن كان المراد به الكتب الإلهية فهو أثبت الأشياء، وإن كان المراد صحيفة قريش فقد كانوا ظنوها أثبت العهود، وذكر أمتن ما يكتب فيه وأشده وأتقنه فقال: { في رق } أي في جلد مهيأ بالقشر للكتابة { منشور * } أي مهيأ للقراءة والاتعاظ بما فيه، ويمكن أن يكون أراد به جميع الكتب المنزلة عاماً بعد خاص، قال الرازي: قال الصادق: إن الله تجلى لعبده بكتابه كما تجلى بالطور لما كان محلاً للتجلي خلقاً، والكتاب لما كان محلاً للتجلي أمراً، أجراهما في قرن - انتهى. ويجوز أن يكون أراد به سبحانه صحيفة الظلم التي كتبوها بما تعاقدوا عليه من أنهم لا يعاشرون بني هاشم ولا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يشاورونهم ولا يناكحونهم ولا يؤازرونهم ولا يعاملونهم حتى يسلموا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقوها في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم إلى شعب أبي طالب خلف أبي قبيس وتبعهم بنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه، فتحيزوا معهم من بين بني عبد مناف، فكان ذلك سبب شرفهم على مدى الدهر، فأرسل الله على الصحيفة - بعد أن مضى على ذلك سنتان حين جهدهم العيش ومضّهم الزمان وزلزلتهم القوارع زلزالاً شديداً وهم ثابتون ليظهر الله بذلك شرف من شاء من عباده - الأرضة، فأبقت ما فيها من أسماء الله تعالى ومحت ما كان من ظلمهم وقطيعتهم، فكان ذلك سبباً لأن قام في نقضها معشر منهم، فنقضها الله بهم، وكانوا إذا ذاك كفرة كلهم ليظهر الله قدرته سبحانه على كل من النقض والإبرام بما شاء ومن شاء { والبيت المعمور * } الذي هو قيام للناس كما كانت قبة الزمان قياماً لبني إسرائيل، هذا إن كان تعالى أراد به الكعبة التي علقوا فيها الصحيفة بعد أن كانوا لما عمروها اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، وزاد بهم الاختلاف حتى تهيؤوا للقتال وتحالفوا عليه، فكان منهم لعقة الدم، ومنهم المطيبون كما هو مشهور في السير، ثم وفقوا لأن رضوا أن يحكم بينهم أو داخل من باب عينوه، فكان أول داخل منه النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا بأجمعهم: هذا محمد هذا الأمين، رضينا بحكمه، فحكم صلى الله علي وسلم بأن يوضع الحجر الشريف في ثوب ويأخذ رئيس كل قبيلة بطرف من أطرافه ويرفعوه كلهم، فلما وازى موضعه أخذه هو صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة فوضعه في موضعه، فكان الفخر له مضاعفاً بحكمه وإصلاحه بينهم، واختصاصه بوضعه وهو معمور بالزوار والخدمة وكثرة الحاشية.

السابقالتالي
2 3 4