الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } * { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } * { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } * { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } * { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } * { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }

ولما ذكروا إشفاقهم، بينوه مؤكدين أيضاً لمثل ذلك بقولهم: { إنا كنا } أي بما طبعنا عليه وهيئنا له. ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة، وكانت تقع في بعض الزمان، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر، والتخلي عن الرذائل لا بد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل: { من قبل } أي في الدنيا { ندعوه } أي نسأله ونعبده بالفعل، وأما خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكنة، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأن إنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره، فهو مما يعجب منه غاية العجب فقالوا: { إنه هو } أي وحده { البر } الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة، لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما بره بالنعمة وربما بره بالبؤس، فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له في العقبى، فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه { الرحيم * } المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته، ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته.

ولما كان هذا مع تشويقه إلى الجنة والأعمال الموصله إليها وعظاً يرقق القلوب ويجلي الكروب، سبب عنه قوله: { فذكر } أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك، وسماه تذكيراً لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق، وعلل التذكير بقوله: { فما أنت } أي وأنت أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة { بنعمت ربك } أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلو الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق وشرف النسب، وأكد النفي بقوله: { بكاهن } أي تقول كلاماً - مع كونه سجعاً متكلفاً - أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه. ولما كان للكاهن والمجنون اتصال بالجن، أتبع ذلك قوله: { ولا مجنون * } أي تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً؛ وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك، فمن اتبعك منهم غسل عاره، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره.

ولما كانت نسبته صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم الفساد مما لا ينبغي أن يتخيله أحد فضلاً أن يقوله له صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يصدق أن أحداً يرميه به، فكان في طيه سؤال تقريع وتوبيخ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره: أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول: { أم يقولون } ما هو أعجب في مجرد قوله فضلاً عن تكريره، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي عن الخليل أنه قال: ما في سورة الطور من ذكر " أم " كله استفهام وليس بعطف.

السابقالتالي
2 3