الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } * { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } * { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } * { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } * { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } * { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ } * { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } * { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }

لما ختم سبحانه ق بالتذكير بالوعيد، افتتح هذه بالقسم البالغ على صدقه، فقال مناسباً بين القسم والمقسم عليه: { والذاريات } أي الرياح التي من شأنها الإطارة والرمي والتفريق والإذهاب، وأكد ذلك بقوله: { ذرواً * } أي بما تصرفها فيه الملائكة، قال الأصبهاني: الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج عن عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال، ثم من رؤوس الجبال تقع في البر، فأما الشمال فإنها تمر تحت عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين، ثم تأخذ حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، وتأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه.

ولما كانت غاية الذرو التهيئة للحمل، قال مسبباً ومعقباً: { فالحاملات } أي من السحب التي فرقت الريح أصلها وهو الأبخرة، وأطارته في الجو في جهة العلو ثم جمعته، فانعقد سحاباً فبسطه مع الالتئام فحمله الله ما أوجد فيه من مراده من الماء والصواعق وغيرها { وقراً * } أي حملاً ثقيلاً، وقد كان قبل ذلك لا يرى شيء منه ولا من محموله، فتحققوا قدرة الله على كل ما يريد وإن لم تروا أسبابه، ولا يغرنكم بالله الغرور.

ولما كان الحمل إنما هو الوضع في الأماكن التي يراد ضرها أو نفعها، وكان سير الغمام بعد الحمل في ساحة الجو وباحة الأفق من غير ممسك يرى أدل على القدرة، ولا سيما إذا كان مع الجري الذي يضرب به لسرعته المثل، وكذا جري السفن في باحة البحر بعد ثقلها بالوسق قال: { فالجاريات يسراً * } أي جرياً ذا سهولة.

ولما كان في غاية الدلالة على تمام القدرة بغريق محمولها في الأراضي المجتاحة ولا سيما إن تباعدت أماكن صبه ومواطن سكبه، وكان ذلك التفريق هو غاية الجري المترتب على الحمل المترتب على الذرو، قال مسبباً معقباً مشيراً بالتفعيل، إلى غرابة فصلها لقطراتها وبداعة تفريقها لرحمتها من عذابها، وغير ذلك من أحوال الجاريات وتصريف الساريات: { فالمقسمات } أي من السحب بما تصرفها فيه الملائكة عليهم السلام، وكذا السفن بما يصرفها الله به من الرياح اللينة أو العاصفة من سلامة وعطب وسرعة وإبطاء، وكذا غيرهما من كل أمر تصرفه الملائكة بين العباد وتقسمه.

ولما كان المحمول مختلفاً كما تقدم، قال جامعاً لذلك: { أمراً * } أي من الرحمة أو العذاب، قال الرازي في اللوامع: وهذه أقسام يقسم الله بها ولا يقسم بها الخلق لأن قسم الخلق استشهاد على صحة قولهم بمن يعلم السر كالعلانية وهو الله تعالى، وقسم الخالق إرادة تأكيد الخبر في نفوسهم فيقسم ببعض بدائع خلقه على وجه يوجب الاعتبار ويدل على توحيده، فالرياح بهبوبها وسكونها لتأليف السحاب وتذرية الطعام واختلاف الهواء وعصوفها مرة ولينها أخرى والسحاب بنحو وقوفها مثقلات بالماء من غير عماد وصرفها في وقت الغنى عنها بما لو دامت لأهلكت، ولو انقطعت لم يقدر أحد على قطرة منها، وبتفريق المطر وإلا هلك الحرث والنسل، والسفن بتسخير البحر لجريانها وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق، ولو ركد لأهلك، والملائكة تقسم الأمور بأمر ربها، كل ذلك دليل على وجود الصانع الحكيم، والفاطر العليم، القادر الماجد الكريم.

السابقالتالي
2 3 4