الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } * { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ولما كانت هذه البشارة - الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان - موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالىولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } [المائدة: 12] وزيادة العجب منهم مع ذلك، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورةأوفوا بالعقود } [المائدة: 1] وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً: { لقد أخذنا } أي على ما لنا من العظمة { ميثاق بني إسرائيل } أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة: { وأرسلنا إليهم رسلاً } أي لم نكتف بهذا العهد، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه - البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم " انتهى. ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله - جواباً لمن كأنه قال: ما فعلوا بالرسل: { كلما جاءهم رسول } أي من أولئك الرسل أي رسول كان { بما لا تهوى أنفسهم } أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه، خالفوه، فكأنه قيل: أي مخالفة؟ فقيل: { فريقاً } أي من الرسل { كذبوا } أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال: { وفريقاً يقتلون * } أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهوتيهم { وحسبوا } أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء { ألاّ تكون } أي توجد { فتنة } أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى، بل استحقوا بأمرها، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرىء: تكون - بالرفع تنزيلاً للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق، وبالنصب كان الحسبان على بابه، وأن، على بابها خفيفة ناصبه للفعل، لأن القاعدة - كما ذكر الواحدي - أن الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع، وفعل يقع على وجهين كحسب: تارة تكون بمعنى طمع فتنصب، وتارة بمعنى علم فترفع، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ، فتنزل القراءتان على فريقين - والله أعلم، وأيضاً فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم { فعموا } أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلاً منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه، وهو انطماس البصائر

السابقالتالي
2 3 4 5