الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } * { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } * { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }

ولما كان الأمر بالحكم فيما مضى لكونه مسبباً عما قبله من إنزال الكتاب على الأحوال المذكورة، أعاد الأمر به سبحانه مصرحاً بذلك لذاته لا لشيء آخر، ليكون الأمر به مؤكداً غاية التأكيد بالأمر به مرتين: مرة لأن الله أمر به، وأخرى لأنه على وفق الحكمة، فقال تأكيداً له وتنويهاً بعظيم شأنه ومحذراً من الأعداء فيما يلقونه من الشبه للصد عنه: { وأن } أي احكم بينهم بذلك لما قلنا من السبب وما ذكرنا من العلة في جعلنا لكل ديناً، ولأنا قلنا آمرين لك أن { احكم بينهم } أي أهل الكتب وغيرهم { بما أنزل الله } أي المختص بصفات الكمال لأنه يستحق أن يتبع أمره لذاته, وبين أن مخالفتهم له وإعراضهم عنه إنما هو مجرد هوى، لأن كتابهم داع إليه، فقال: { ولا تتبع أهواءهم } أي في عدم التقييد به { واحذرهم أن يفتنوك } أي يخالطوك بكذبهم على الله وافترائهم وتحريفهم الكلم ومراءاتهم مخالطة تميلك { عن بعض ما أنزل الله } أي الذي لا أعظم منه، فلا وجه أصلاً للعدول عن أمره { إليك فإن تولوا } أي كلفو أنفسهم الإعراض عما حكمت به بينهم مضادين لما دعت إليه الطفرة الأولة من اتباع الحق ودعت إليه كتبهم من اتباعك { فاعلم إنما يريد الله } أي الذي له جميع العظمة العظمة { أن يصيبهم } لأنه لو أراد بهم الخير لهداهم إلى القبول الذي يطابق عليه شاهد العقل بما تدعو إليه الفطرة الأولى والنقل بما في كتبهم، إما من الأمر بذلك الحكم بعينه، وإما من الأمر باتباعك { ببعض ذنوبهم } أي التي هذا منها، وأبهمه زيادة في استدراجهم وإضلالهم وتحذيراً لهم من جميع مساوي أعمالهم، لئلا يعلموا عين الذنب الذي اصيبوا به، فيحملهم ذلك على الرجوع عنه، ويصير ذلك كالإلجاء، أو يكون إبهامه للتعظيم كما أن التنكير يفيد التعظيم، فيؤذن السياق بتعظيم هذا التولي وبكثرة ذنوبهم واجترائهم على مواقعتها.

ولما كان التقدير: فإنهم بالتولي فاسقون، عطف عليه: { وإن كثيراً من الناس } أي هم وغيرهم { لفاسقون * } أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات، متكلفون لأنفسهم إظهار ما في بواطنهم من خفي الحيلة بقوة؛ ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولا بد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط، سبب عَن إعراضهم الإنكار عليهم بقوله: { أفحكم الجاهلية } أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل، لكونها لم يدع إليها كتاب، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب { يبغون } أي يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب.

السابقالتالي
2 3