الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } * { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

ولما كان هذا الوعظ جديراً بأن يكون سبباً لطاعته وزاجراً له عن معصيته، بين تعالى أنه قسا قلبه فجعله سبباً لإقدامه، فقال - مبيناً بصيغة التفعيل، إذ القتل لما جعل الله له من الحرمة وكساه من الهيبة لا يقدم عليه إلا بمعالجة كبيرة من النفس -: { فطوعت له } أي الذي لم يتقبل منه { نفسه قتل أخيه } أي فعالجته معالجة كبيرة وشجعته، وسهلت له بما عندها من النفاسة على زعمها حتى غلبت على عقله فانطاع لها وانقاد فأقدم عليه؛ وتحقيق المعنى أن من تصور النهي عن الذنب والعقاب عليه امتنع منه فكان فعله كالعاصي عليه، ومن استولت عليه نفسه بأنواع الشبه في تزيينه صار فعله له وإقدامه عليه كالمطيع له الممكن من نفسه بعد أن كان عاصياً عليه نافراً عنه، ثم سبب عن هذا التطويع قوله: { فقتله } وسبب عن القتل قوله: { فأصبح } أي فكان في كل زمن { من الخاسرين * } أي العريقين في صفة الخسران بغضب الله عليه لاجترائه على إفساده مصنوعَه، وغضب أبناء جنسه عليه لاجترائه على أحدهم، وعبر بالإصباح والمراد جميع الأوقات، لأن الصباح محل توقع الارتياح، قيل: إنه لم يدر كيف يقتله، فتصور له إبليس في يده طائر فشدخ رأسه بحجر فقتله، فاقتدى به قابيل، فأتى هابيل وهو نائمٌ فشدخ رأسه بحجر.

ولما كان التقدير: ثم إنه لم يدر ما يصنع به، إذ كان أول ميت فلم يكن الدفن معروفاً، سبب عنه قولَه: { فبعث الله } أي الذي له كمال القدرة والعظمة والحكمة؛ ولما كان المعنى يحصل بالغراب الباحث فقط قال: { غراباً يبحث } أي يوجد البحث وهو التفتيش في التراب بتليين ما تراصّ منه وإزاحته من مكانه ليبقى مكانه حوزة خالية.

ولما كان البحث مطلق التفتيش، دل على ما ذكرته بقوله: { في الأرض } ليواري غراباً آخر مات؛ ولما كان الغراب سبب علم ابن آدم القاتل للدفن، كان كأنه بحث لأجل تعليمه فقال تعالى: { ليريه } أي الغراب يُرى ابن آدم، ويجوز أن يكون الضمير المستتر لله تعالى، والأول أولى لتوقيفه على عجزه وجهله بأن الغراب أعلم منه وأقرب إلى الخير { كيف يواري }.

ولما كانت السوءة واجبة الستر، وكان الميت يصير بعد موته كله سوءة، قال منبهاً على ذلك وعلى أنها السبب في الدفن بالقصد الأول: { سوءة } أي فضيحة { أخيه } أي أخي قابيل وهو هابيل المقتول، وصيغة المفاعلة تفيد أن الجثة تريد أن يكو القاتل وراءها، والقاتل يريد كون الجثة وراءه، فيكونان بحيث لا يرى واحد منهما الآخر، ولعل بعث الغراب إشارة إلى غربة القاتل باستيحاش الناس منه وجعله ما ينفر عنه ويقتله كل من يقدر عليه، ومن ثَمَّ سمى الغراب البين، وتشاءم به من يراه.

السابقالتالي
2 3 4