الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة - كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة - فاستحقوا ما هم فيه من الخزي، فقال تعالى مسبباً عما مضى مؤكداً بما النافية لضد ما أثبته الكلام: { فبما نقضهم ميثاقهم } أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام، وقتلهم الأنبياء، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر { لعناهم } أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا.

ولما كان البعيد قد يكون رقيق القلب، متأسفاً على بعده. ساعياً في أسباب قربه، باقياً على عافية ربه، فيرجى بذلك له الغفران لذنبه. أخبر أنهم على غير ذلك بقوله: { وجعلنا } أي بعظمتنا { قلوبهم قاسية } أي صلبة عاسية بالغش فهي غير قابلة للنصحية، لأن الذهب الخالص يكون ليناً، والمغشوش يكون فيه يبس وصلابة، وكل لين قابل للصلاح بسهولة، ثم بين قساوتها بما دل على نقضهم بقوله: { يحرّفون الكلم } أي يجددون كل وقت تحريفه { عن مواضعه } فإنهم كلما وجدوا شيئاً من كلام الله يشهد بضلالهم حرفوه إلى شهواتهم، وأولوه التأويل الباطل بأهوائهم، فهم يحرفون الكلم ومعانيها.

ولما كانوا قد تركوا أصلاً ورأساً ما لا يقدرون لصراحته على تحريفه، قال معبراً بالماضي إعلاماً بحرمهم بالبراءة من ذلك: { ونسوا حظاً } أي نصيباً نافعاً معلياً لهم { مما ذكروا به } أي من التوراة على ألسنة أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم السلام، تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.

ولما ذكر سبحانه ما يفعلونه في حقه في كلامه الذي هو صفته، أتبعه ما يعم حقه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم أن الخيانة ديدنهم، تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال: { ولا تزال } أي بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق! { تطلع } أي تظهر ظهوراً بليغاً { على خائنة } أي خيانة عظيمة تستحق أن تسمي فاعلها الخؤون لشدتها و { منهم } أي في حقك بقصد الأذى، وفي حق الله تعالى بإخفاء بعض ما شرعه لهم { إلا قليلاً منهم } فإنهم يكونون على نهج الاستقامة إما بالإيمان، وإما بالوفاء وهم متمسكون بالكفر، ثم سبب عن هذا الذي في حقه صلى الله عليه وسلم قوله: { فاعف عنهم } أي امح ذنبهم ذلك الذي اجترحوه، وهو دون النقض والتحريف فلا تعاقبهم عليه.

السابقالتالي
2 3