الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } * { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

لما كانت تلك سورة الجهاد وكانت هذه سورة محمد بشارة للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز والنصر والظفر على كل من كفر، وهذا كما سيأتي من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون، فأخبرت القتال عن الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالتقال، وإفساد جميع الأحوال، وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالهداية وإصلاح البال، وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام، وهدد من أعرض باستبدال غيره به، وإن ذلك البدل لا يتولى عن العدو ولا ينكل عنه، فكان ذلك محتماً لسفول الكفر وعلو الإيمان، وذلك بعينه هو الفتح المبين، فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا بد منه وأنه مما ينبغي أن يؤكد لابتهاج النفوس الفاضلة به، وتكذيب من في قلبه مرض وهم أغلب الناس في ذلك الوقت. { إنا } أي بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال { فتحنا } أي أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان الأسباب المنتجة له من غير شك، ولذلك عبر عنه بالماضي.

ولما كانت منفعة ذلك له صلى الله عليه وسلم لأن إعلاء كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلىء الأرض من أمنه، فلا يعمل منهم أحد حسنة إلا كان له مثل أجرها ويكونون على قصر زمنهم ثلثي أهل الجنة، فيكون ذلك شرفاً له - إلى غير ذلك الأسرار، التي يعيى دون أيسرها الكفار، قال: { لك } أي بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه، يصحبان في الرجوع منه إلى المدينة المشرفة، قال الأزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فرأوا ما لا أعدل منه ولا أحسن، فاستولى الإسلام على قلوبهم وتمكن منهم فأسلم منهم في ثلاث سنين خلق كثير، وكذا كان من الفتح تقوية أمره صلى الله عليه وسلم بالتصديق فيما أنزل عليه من سورة من غلبهم على أهل فارس في رواية من قال: إنه كان في زمن الحديبية، ثم زاده تأكيداً بقوله: { فتحاً } وزاد في إعظامه بقوله: { مبيناً * } أي لا لبس فيه على أحد، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك، وكان عند أهل الكفر أنك في أيديهم، وأن أمرك لا يعدو فمك، فتبعك ناس ضعفاء فعذبوهم وكانوا معهم في أسوأ الأحوال، وتقرر ذلك في إذهانهم مدداً طوالاً ثلاث عشرة سنة، ثم انقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى النجاشي رحمه الله تعالى أولاً، وإلى المدينة الشريفة ثانياً، وهم مطمئنون بأنك أنت - وأنت رأسهم - لا ينتظم لهم بدونك أمر، ولا يحصل لكسرهم ما لم تكن معهم جبر، بأنك في قبضتهم لا خلاص لك أبداً منهم ولا انفكاك من بلدتهم، فاستخرجك الله من عندهم بعد أن حماك على خلاف القياس وأنت بينهم من أن يقتلوك، مع اجتهادهم في ذلك واستفراغهم قواهم في أذاك، ثم بذلوا جهدهم في منعك من الهجرة فما قدروا، ثم في ردك فما أطاقوا ولا فازوا ولا ظفروا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6