الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }

ولما ذكر آية البحر لعظمتها، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله، على عظمه إلا لنا، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى: { وسخر لكم } أي خاصة ولو شاء لمنعه { ما في السماوات } بإنزاله إليكم منبهاً على أنها بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه، وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم، وأفعالهم أفعال من ينكره، فقال: { وما في الأرض } وأوصلكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله: { جميعاً } حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها { منه } لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك، قال الرازي في اللوامع: قال أبو يعقوب النهر جوري: سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه، وقال القشيري: ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للانسان به انتفاع، فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك.

ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني، حسن جداً قوله، مؤكداً لأن عملهم يخالفه: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون { لآيات } أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا { لقوم } أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم { يتفكرون * } أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً.

ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة، وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف: { قل } أي بقالك وحالك { للذين آمنوا } أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله: اغفروا تسنناً به من أساء إليكم. ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله: { يغفروا } أي يستروا ستراً بالغاً.

السابقالتالي
2 3