الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } * { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } * { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ }

ولما كان الإنسان في الدنيا يخشى كلفة النفقات، وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال: { يدعون } أي يطلبون طلباً هو بغاية المسرة { فيها بكل } لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف ببعد مكان ولا فقد أوان، ولا غير ذلك من الشأن، وقال: { فاكهة } إيذاناً بأن ذلك مع سعته ليس فيها شيء لإقامة البينة وإنما هو للفتكه ومجرد التلذذ. ولما كان التوسع في التلذذ يخشى منه غوائل جمة قال: { آمنين * } أي وهم في غاية الأمن من كل مخوف.

ولما ذكر الأمان، وكان أخوف ما يخاف أهل الدنيا الموت، قال: { لا يذوقون فيها } أي الجنة { الموت } أي لا يتجدد لهم أوائل استطعامه فكيف بما وراء ذلك. ولما كان المراد نفي ذلك على وجه يحصل معه القطع بالأمن على أعلى الوجوه، وكان الاستثناء معيار العموم، وكان من المعلوم أن ما كان في الدنيا من ذوق الموت الذي هو معنى من المعاني قد استحال عوده، قال معللاً معلقاً على هذا المحال: { إلا الموتة } ولما كان المعنى مع إسناد الذوق إليه لا يلبس لأن ما قبل نفخ الروح ليس مذوقاً، عبر بقوله: { الأولى } وقد أفهم التقييد بالظرف أن النار يذاق فيها الموت، والوصف بالأولى أن المذوق موتة ثانية، فكان كأنه قيل: لكن غير المتقين ممن كان عاصياً فيدخل النار فيذوق فيها موتة أخرى - كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ويجوز أن يجعل وصف المتقين أعم من الراسخين وغيرهم، فيكون الحكم على المجموع، أي أن الكل لا يذوقون، وبعضهم - وهم من أراد الله من العصاة - يذوقونه في غيرها وهو النار، ويجوز أن تكون الموتة الأولى كانت في الجنة المجازية فلا يكون تعليقاً بمحال، وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا مجازاً بما له من التسبب وبما سبق من حكم الله له بها، قال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها " " وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا " وكذا المحكوم له بما هو فيها عند الموت وبعده بما له من التمتع بالنظر ونحوه من الأكل للشهداء وغير ذلك مما ورد في الأخبار الصحيحة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمه النضر رضي الله عنه قال يوم أحد: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، ثم قاتل حتى قتل. ثم يكون تمام ذلك النعيم بالجنة بعد البعث، قال ابن برجان: الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن المتقي وتتبع النظر فيها فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياهم فيها وقربه منهم ونظره إليهم وذكرهم له وعبادتهم إياه وشغلهم به وهو معهم أينما كانوا.

السابقالتالي
2 3 4