الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } * { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } * { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } * { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ }

ولما أمرهم بطاعته، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب: { إن الله } أي الذي اختص بالجلال والجمال، فكان أهلاً لأن يتقى { هو } أي وحده { ربي وربكم } نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات { فاعبدوه } بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا.

ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة { هذا } أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه { صراط } أي طريق واسع جداً واضح { مستقيم } لا عوج له.

ذكر ما يدل على أنه أتى بالحكمة من الإنجيل:

قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى: فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية - وقال مرقس: يونانية - خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول: ارحمني يا رب يا ابن داود! ابنتي بها شيطان رديء، فلم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين: اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا، أجاب وقال لهم: لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل، فأتت وسجدت له قائلة: يا رب أعني فأجاب: ليس هو جيداً أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب، فقالت: نعم! يا رب، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيمة أمانتك يكون لك كما أردت، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة، وقال مرقس: فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه، فأخرجوه وحده من الشعب، وترك أصابعه في أذنيه، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال: الفاثاً الذي هو التفتح، وللوقت انفتح سمعه وسمع، وانحل رباط لسانه وتكلم مستوياً، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً فأتاهم فكانوا ينكرون كثيراً ويبهتون جداً، قائلين: ما أحسن كل شيء! يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون، وقال مرقس: ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى، وطلبوا منه أن يلمسه، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجاً من القرية، وتفل في عينيه ووضع يده عليه وسأله: ما ينظر؟ قال: أنظر الناس مثل الشجر يمشون، فوضع يده أيضاً على عينيه، فأبصر حيناً ونظر إلى كل شيء ظاهراً، قال: ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه: ماذا يقول الناس في ابن الإنسان؟ فقال قوم: يوحنا المعمدان، وآخرون: إليا، وآخرون: إرميا، وواحد من الأنبياء، فقال لهم: فأنتم ماذا تقولون؟ أجاب سمعان بطرس - وقال: أنت هو المسيح، أجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأنه ليس جسد يسعى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات، وما ربطته الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماوات، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشليم ويقبل الآماً كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وقال: من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها، وما ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه، وقال لوقا: وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم: من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً، من منكم يريد أن يبني برجاً ولا يجلس أولاً ويحسب نفقته؟ وهل له ما يكمله لكيما يستهزىء به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولاً ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفاً إلا فما دام بعيداً منه يرسل رسلاً رسل سلامة، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً، وذكر لوقا أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلاً لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم: متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له: يا حبيب! ارتفع إلى فوق، حينئذ يكون لك مجداً قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع، وكل من يتضع يرتفع، وقال للذي دعاه: وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا أغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضاً فيكون لك مكافأة، لكن إذا صنعت طعاماً فادع المساكين والعور والضعفاء والعميان، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين، فسمع واحد من المتكئين ذلك، فقال له: طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله، وقال متى: وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له: من هو العظيم في ملكوت السماوات، فدعا طفلاً وأقامه بينهم وقال: الحق أقول: إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات، ومن قبل صبياً مثل هذا باسمي فقد قبلني، قال مرقس: ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني، وقال لوقا: ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر، قال متى: ومن شك أحد هؤلاء الصغار المؤمنين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته، ويغرق في البحر، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للإنسان الذي يأتي منه الشكوك، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد، وقال مرقس: وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها - انتهى.

السابقالتالي
2 3 4 5