الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } * { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } * { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }

ولما تضمن هذا أنه غير مهان، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال: { إن } أي ما { هو } أي عيسى عليه الصلاة والسلام { إلا عبد } وليس هو بإله { أنعمنا } أي بما لنا من العظمة والإحسان { عليه } أي بالنبوة والإقدار على الخوارق { وجعلناه } بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته { مثلاً } أي أمراً عجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني { لبني إسرائيل } الذين هم أعلم الناس به، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره، وقال: هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان، فنال من الله الرضوان، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام: مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وقال ابن برجان: خصهم - أي بني إسرائيل - بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه، ثم قال: وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته - انتهى، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة.

ولما كان التقدير: فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً؟ لا أنيس بها، عطف عليه قوله: { ولو } معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال: { نشاء لجعلنا } أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام { منكم } أي جعلاً مبتدئاً منكم، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية { ملائكة في الأرض يخلفون * } أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون المعنى: لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو.

السابقالتالي
2 3 4