الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } * { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } * { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } * { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } * { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } * { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }

ولما دلت صريح آية التمتيع وتلويح ما بعدها أن البسط في الرزق الموجب للعلو مع أنه خسيس المنزلة ناقص المقدار مقتض للخروج عن السواء، وكان التقدير: فنحن نخص بهذا الخير للأفراد في الأدوار الآحاد من الأبرار لنستنقذ بهم من شئنا من الضلال ونعطي الحطام للعتاة الطغام الأرذال ابتلاء للعباد ليبين لهم أهل البغي من أهل الرشاد، ولولا ما اقتضته حكمتنا بترتيب هذا الوجود على الأسباب من المفاوتة بين الناس لقيام الوجود لساوينا بينهم، وعطف: عليه قوله مذكراً بلطفه بالمؤمنين وبره لهم برفعه ما يقضتي لهم شديد المجاهدة وعظيم المصابرة والمكابدة لحال تزل فيه الأقدام عن سنن الهدى من الميل والإصغاء إلى مظان الغنى والملك وتمام المكنة والعظمة: { ولولا أن يكون الناس } أي أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم { أمة واحدة } أي في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارها وهممهم إلا من عصم الله { لجعلنا } أي في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لم يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضنا لها { لمن يكفر } وقوله: { بالرحمن } أي العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها للمبعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها سبحانه من الرفق بالمؤمنين.

ولما كان تزيين الظرف دائماً بحسب زينة المظروف، دل على ما لهم من ملابسهم ومراكبهم وغير ذلك من أمورهم بزينة المنازل، فقال مبدلاً من { لمن } بدل الاشتمال لأن سوقه على طريق الإبدال أروع: { لبيوتهم } أي التي ينزلونها { سقفاً } أي هذا الجنس في قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالموحدة بدليل قراءة الباقين بضمتين جمعاً { من فضة } كأنه خصها لإفادتها النور { ومعارج } أي من فضة، وهي المصاعد من الدرج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج { عليها يظهرون } أي يعلون ويرتقون على ظهورها إلى المعالي { ولبيوتهم أبواباً } أي من فضة أيضاً.

ولما كان إفراد السرير يوهم أنه واحد يدار به على الكل، جمع ليفهم أن لكل واحد ما يخصه من الأسرة بخلاف السقف فإنه لا يهوم ذلك فلعله قرئ بإفراده وجمعه، فقال: { وسرراً } بالجمع خاصة، ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله: { عليها يتكئون } ودل على ما لا يتناهى من غير ذلك بقوله: { وزخرفاً } أي ذهباً وزينة عامة كاملة.

ولما كان لفظ الزخرف دالاً على كون ذلك أمراً ظاهرياً متلاشياً عند التحقيق، دل عليه بقوله مؤكداً لما تقرر في النفوس من أن السادة في مثل ذلك، وما كان مقرراً عندهم من أن السعيد في الأول سعيد في الآخرة على تقدير كونها: { وإن } أي وما { كل ذلك } أي الأمر البعيد عن الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا، ولأن صاحبه لا يزال فقيراً وإن استوسقت له الدنيا ملكاً وملكاً، لأنه لا بد أن يبقى في نفسه شيء لا تبلغه قدرته فهو لا يزال مغبوناً { لما } أي إلا - هذا على قراءة عاصم وحمزة بالتشديد: وهي في قراءة الباقين بالتخفيف فارقة بين النافية والمخففة، وما مؤكدة والخبر هو { متاع الحياة الدنيا } أي التي اسمها دال على دناءتها وأن لها ضرة هي الآخرة، وهو منقطع بالموت، فلذلك اقتضت رحمته أن لا يضيق على المؤمنين في الأغلب لأن السعة تنقصهم في الآخرة ويطول الحساب { والآخرة } التي لا دار تعدلها بل لا دار الحقيقة إلى هي.

السابقالتالي
2 3 4