الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } * { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

ولما كان التقدير: فالذين تولوه وماتوا في ولايته فهو يغفر ذنوبهم بمعنى أنه يزيلها عيناً وأثراً، عطف عليه قوله: { والذين اتخذوا } أي عالجوا فطرهم الأولى وعقولهم حتى أخذوا { من دونه } أي من أدنى رتبة من رتبته { أولياء } يعبدونهم كالأصنام وكل من اتبع هواه في شيء من الأشياء، فقد اتخذ الشيطان الآمر له بذلك ولياً من دون الله بمخالفة أمره.

ولما كان ما فعلوه عظيم البشاعة، اشتد التشوف إلى جزائهم عليه فأخبر عنه سبحانه بقوله معبراً بالاسم الأعظم إشارة إلى وضوح ضلالهم وعظم تهديدهم معرياً له عن الفاء لئلا يتوهم أن الحفظ مسبب عن الاتخاذ المذكور عادلاً إلى التعبير بالجلالة تعظيماً لما في الشرك من الظلم وتغليظاً لما يستحق فاعله من الزجر: { الله } أي المحيط بصفات الكمال { حفيظ عليهم } أي رقيب وراع وشهيد على اعمالهم، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعده للكافرين، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً، فلم يعاقبهم ولم يعاتبهم، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاتبهم { وما أنت عليهم بوكيل * } أي حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم، فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل مما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن } أو قالوا { قلوبنا في أكنة } أو غير ذلك.

ولما كان الإيحاء السابق أول السورة للبشرى لأنها المقصود بالذات وكانت البشرى مقتضية تلويحاً ورمزاً بالأحرف المقطعة لاجتماع أهل الدين وغلبتهم على سائر الأديان وأن دينهم يعم سائر الأمم ويحيط بجميع الخلق، ولا يريد أحد بأهله سوءاً إلا كان له فيه رفعة كما مضى بيانه، وكانت رمزاً لأن المقام للانذار بما تشهد به السورة الماضية، وكان المراد بها التكرار حتى لا تزال لذاذتها في أذن المبشر وحلاوتها في قلبه، ذكرها بلفظ المضارع الدال على التجدد والتكرار والحدوث والاستمرار، وكان المتعنت ربما حمله له على الوعد بالإيحاء في المستقبل، وكان العاقل يكفيه في النذرى مرة واحدة فقال معبراً بالماضي الدال على الإمضاء والقطع والقضاء الحتم في كل من الإيحاء وفائدته التي هي الأنذار، عاطفاً على ما يتصل بالآية السالفة المختومة بنفي الوكالة مما تقديره: إنما عليك البلاغ بالبشارة والنذارة، وقد أوحينا إليك البشارة رمزاً، كما جرت به عادة الأحباب في محاورات الخطاب، ولفت القول إلى مظهر العظمة لأن الإنذار من مجازه: { وكذلك } أي ومثل ذلك الإيحاء الذي قدمنا أنا حبوناك به من وحي الإشارة بالحروف المقطعة { أوحينا } بما لنا من العظمة مع الفرق بين كل ملبس { إليك قرآناً } جامعاً لكل حكمة { عربياً } فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب { لتنذر } أي به { أم القرى } مكة التي هي أم الأرض وأصلها، منها دحيت ولشرفها أوقع الفعل عليها، عدا لها عداد العقلاء، ثم بين أن المراد أهلها بقوله: { ومن } أي وتنذر من { حولها } وهم سكان جميع الأرض التي هي امها، وبذلك فسره البغوي فقال: قرى الأرض كلها، وكذا القشيري وقال: العالم محدق بالكعبة ومكة لأنها سرة الأرض.

السابقالتالي
2 3