الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ }

ولما كان الوحي روحاً مدبراً للروح كما أن الروح مدبر للبدن، صرح به فقال: { وكذلك } أي ومثل ما أخبرناك بالكيفيات التي نوحيها إلى عبادنا { أوحينا إليك } صارفاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً لما أوحى إليه وأفاض من نعمه عليه على جميع تلك الأقسام، فالتفت في الروع مذكوراً غير منكور، والسماع من دون الحجاب أصلاً منقول في الإخبار عن ليلة المعراج ومعقول في السماع من وراء الحجاب أيضاً ذكر فيها في قوله: " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " والوحي بواسطة الملك كثيراً جداً، وأعظم الوحي وشرفه بقوله منكراً له تعظيماً لما عنده من الروح الأمري بإفادة أن هذا الكتاب الذي أبكم الفصحاء وأعجز البلغاء وحير الألباب من الحكماء شعبة منه وذرة بارزة عنه، ويمكن أن يكون تنكير تعظيم وإجلال وتكريم { روحاً } أي من خالطه صار قلبه حياً ومن عري عنه كان قلبه ميتاً. وزاد عظمه بقوله: { من أمرنا } أي بجعله من قسم الأمر وإظهاره في مظهر العظمة فيا له من علو يتضاءل دونه كل شامخ ويتحاقر إكباراً له كل مادح، والمراد بهذا رد ما تقدم من نسبتهم له صلى الله عليه وسلم إلى الإفتراء لأنه تعالى لم يختم على قلبه بل فتحه بيد القدرة وأحياه بروح الوحي فأنطقه بالحكم التي خضعت لها الحكماء، وأقرت بالعجز عن إدانتها ألباب العلماء، ودل على ذلك بقوله، نافياً مبيناً حاله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الوحي: { ما كنت } أي فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك مساوياً لهم في كونك لا تعلم شيئاً ولا تتفوه بشيء من ذلك وهو معنى { تدري } وعبر بأداة الاستفهام إشارة إلى أن ما بعدها مما يجب الاهتمام به والسؤال عنه، وعلق بجملة الاستفهام الدراية عن العمل وسدت مسد مفعولي الدراية { ما الكتاب } أي ما كان في جبلتك أن تعلم ذلك بأدنى أنواع العلم بمجادلة ولا غيرها { ولا الإيمان } أي بتفصيل الشرائع على ما حددناه لك بما أوحيناه إليك، وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له نفسه صلى الله عليه وسلم بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك، وكذا الملائكة واليوم الآخر فيصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه.

ولما كان المعنى: ولكن نحن أدريناك بذلك كله، عبر عنه إعلاماً بأن الخلق كانوا في ظلام لكونهم كانوا يفعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في الظلام بقوله: { ولكن جعلناه } أي الروح الذي هو الكتاب المنزل منا إليك المعلم بالإيمان وكل عرفان بما لنا من العظمة { نوراً نهدي } على عظمتنا { به من نشاء } خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا { من عبادنا } بخلق الهداية في قلبه، قال ابن برجان: فمن رزقه الفرقان الذي يفرق بين المتشابهات والنور الذي يمشي به في الظلمات، فذلك الذي أبصر شعاع النور وشاهد الضياء المبثوث في العالم المفطور، وعلى قدر إقباله عليه والتفرغ عن كل شاغل عنه يكون قبوله له وهدايته به، وقال الأصبهاني في سورة النور: هو الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار مثلاً على الأرض والجدار وغيرهما، يقال: استنارت الأرض، وقال حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه: ومن المعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة, ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذلك يتوقف على وجود اليعن الباصرة وهي المدركة وبها الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش: إن نور عينيه ضعيف، وفي الأعمى أنه فقد نور البصر، إذا ثبت هذا فنقول: للإنسان بصر وبصيرة، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان, والبصيرة هي القوة العاقلة, وكل واحد من الإدراكين يقتضي نوراً، ونور العقل أقوى وأشد من نور العين، لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا إدراكها ولا آلاتها، والقوة العاقلة تدرك نفسها، وإدراكها وآلتها فنور العقل اكمل من نور البصر، والقوة العاقلة تدرك الكليات والقوة الباصرة لا تدركها، وإدراك الكليات أشرف لانه لا يتغير بخلاف الجزئيات، وإدراك العقل منتج وإدراك الجزئي غير منتج، والقوة الباصرة لا تدرك إلا السطح الظاهر من الجسم واللون القائم بذلك السطح بشرط الضوء, فإذا أدركت الإنسان لم تدرك منه إلا السطح الظاهر من جسمه واللون القائم به, والقوة العاقلة تدرك ظاهر الأشياء وباطنها فان الباطن والظاهر بالنسبة إليها على السواء, فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الظاهر والباطن، والقوة الباصرة ظلمة بالنسبة إلى الباطن، ومدرك القوة العاقلة هو الله وصفاته وأفعاله، ومدرك القوة هو الألوان والأشكال فيكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله إلى شرف الألوان والأشكال، والقوة الباصرة كالخادم والقوة العاقلة كالأمير، والأمير أشرف من الخادم، والقوة الباصرة قد تغلط والقوة العاقلة لا تغلط، فثبت أن الإدراك العقلي أكمل وأقوى وأشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً، والإدراك العقلي قسمان: أحدهما واجب الحصول عند سلامة القوى والآلات وهي التعقلات الفطرية، والثاني ما يكون مكتسباً، وهي التعقلات النظرية، ولا يكون من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً البتة، فهذه الأنوار إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب، والفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ فلا بد من هاد ومرشد، ولا مرشد فوق كلام الله وأنبيائه، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس كما يسمى نور الشمس نوراً فنور القرآن يشبه نور الشمس, ونور العقل يشبه نور العين، وبهذا يظهر معنى قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5