الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } * { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } * { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }

ولما كانوا جميعاً يقرون بجميع ما وصف به نفسه المقدسة في هذه الآية عند الشدائد، بعضه تصريحاً من الوحدانية في الولاية والإحياء في هذه الدار والقدرة على كل شيء، وبعضه لزوماً وهو الإحياء بالبعث، تسبب عن ذلك قطعاً أن يقال مع صرف القول إلى الخطاب إشارة إلى أنه تعالى قرب إليهم كل خير وقرب إليهم فهم الوحدانية لعقولهم بعد أن فطرهم على لزومها عند الاضطرار، فما اتفقتم فيه من أمره سبحانه فهو الحق، وذلك هو أصل الدين الذي أطبق عليه الخلائق في وقت الاضطرار، لم يتلعثم فيه منهم ضعيف، ولا جبار منيف، عطف عليه قوله: { وما اختلفتم } أي أيها الخلق { فيه من شيء } وذلك هو الفروع مطلقاً والأصول في حال الرفاهية { فحكمه إلى الله } أي الذي هو الولي لا غيره وهو القدير لا غيره، فلا يخرج شيء عن أمره، فحصوا عنه تجدوه في كتابه لأن فيه تبيان كل شيء، فإن قصرت أفهامكم عن إخراجه منه فاطلبوه في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن عز عليكم ففي إجماع أهل دينه، فإن أعوزكم ذلك ففي القياس على شيء من ذلك. قال القشيري: هذه الأشياء هي قانون الشريعة، وجملتها من كتاب الله، فإن الكتاب هو الذي يدل على صحة هذه الجملة - انتهى. وما اجتهدتم فيه على ما شرع لكم وفصلتموه بما ظهر لكم على حكم بذل الجهد مضى، وما لا فصله بينكم سبحانه في هذا اليوم أن أراد بنصر المحق وخذلان الظالم، وإن أراد أخره إلى يوم الدين، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب عليه، فلا حكم لغيره لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ولما أنتج هذا أنه لا عظيم غيره، ولا إله إلا هو، ترجم ذلك بقوله مخاطباً للكل: { ذلكم } أي العظيم الرتبة جداً { الله } المحيط بجميع أوصاف الكمال، فلا شريك له في شيء منه بوجه { ربي } الذي لا مربي له غيره في ماضٍ ولا حال ولا استقبال. ولما كان ذلك، أنتج ولا بد قوله: { عليه } أي وحده { توكلت } أي أسلمت جميع أمري { وإليه } أي لا إلى غيره { أنيب * } أي أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور، فأعرف منه حكمه فافعلوا أنتم كذلك، اجعلوه الحكم تفلحوا، ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا.

ولما تقرر بهذا الكلام أنه قد ركز في الفطر أنه لا إله غيره لأنه خالق سواه كما يهدي إليه الاضطرار وإن أغفل عنه البطر، وصفه بالدليل على ذلك الذي جبل عليه جميع الفطر: { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما بالخلق والإخراج من العدم، وكل ما اتخذتموه ولياً من دونه فهو منهما، فهو مما فطره كما يعلم كل أحد منكم ذلك لا يتمارى فيه، فهذا هو السبب في العلم المركوز في الفطر من أنه الواحد الذي لا إله معه كما كان في الأزل ولا شيء معه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6