الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } * { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }

ولما ذكر سبحانه من أحوالهم المندرجة في أحوال هذا النوع كله ما هو مكشوف بشاهد الوجود من أنه لا ثبات لهم لا سيما عند الشدائد إعلاماً بالعراقة في الجهل والعجز، دل على الأمرين معا بما لا يمكن عاقلاً دفعه من أنهم لا يجوزون الممكن فيعدون له ما يمتعه على تقدير وقوعه، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك إيذاناً بالإعراض عنهم دليلاً على تناهي الغضب: { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن كان } أي هذا القرآن الذي نصبتم لمغالبته حتى بالإعراض عن السماع باللغو حال قراءته من الصفير والتصفيق وغير ذلك، وليس ذلك منكم صادراً عن حجة قاطعة في أمره أتم معها على يقين بل هو عن خفة وعدم تأمل منكم أنه { من عند الله } الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال فهو لا يغالب.

ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد، وكان مقصود السورة دائراً على العلم، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال: { ثم كفرتم به } أي بعد إمعان النظر فيه والتحقق لأنه حق، فكنتم بذلك في شقاق هو في غاية البعد من الملائمة لمن لم يزل يستعطفكم بجميل أفعاله، ويردكم بجليل أقواله وآمن به غيركم لأنه من عند الله { من أضل } منكم - هكذا كان الأصل ولكنه قال: { ممن هو في شقاق } أي لأولياء الله { بعيد * } تنبيهاً على أنهم صاروا كذلك، وأن من صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله وتعالى التي من واقعته هلك لا محالة، ومن أهدى ممن هو في إسلام قريب وهو الذي آمن لأنه سالم الله الذي من سالمه سالمه كل شيء، فنجا من كل خطر - فالآية من الاحتباك: ذكر الكفر أولاً دليلاً على الإيمان ثانياً، والضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً، وسره أن ذكر المضار أصدع للقلب فهو أنفع في الوعظ.

ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه: { سنريهم } أي عن قرب بوعد لا خلف فيه { آياتنا } أي على ما لها من العظمة { في الآفاق } أي النواحي، جمع أفق كعنق وأعناق، أبدلت الهمزة الثانية ألفاً لسكونها بعد مثلها، أي وما ظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة، تصديقاً لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في التجانس - وغير ذلك من الآيات بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع.

السابقالتالي
2 3