الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } * { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } * { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } * { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سبباً لإخلاصهم، فقال تعالى مسبباً عنه: { فادعوا } وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال: { الله } أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل { مخلصين له الدين } أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص.

ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: { ولو كره } أي الدعاء منكم { الكافرون * } أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه - سبحانه وما أعز شأنه - بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص.

ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره: هو { رفيع الدرجات } أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.

ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في { سأل } بصيغة منتهى الجموع { المعارج } - ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: { ذو العرش } أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.

السابقالتالي
2 3 4