الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } * { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } * { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }

ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق، لا سيما ما يستكثره من الصداق، فأتبعه ما ينفي ذلك، فقال - مخاطباً للأزواج، لأن السياق لهم، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيىء له: { وآتوا النساء } أي عامة من اليتامى وغيرهن { صدقاتهن } ، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه: { نحلة } مؤيد لذلك، لأن معناها: عطية عن طيب نفس؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وأصله - أي النحل: إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا: معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب، أي آتوهن ذلك ديانة.

ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة - لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال: { فإن طبن لكم } أي متجاوزات { عن شيء } ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات، ولم يقل: منها، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال: { منه } أي الصداق { نفساً } أي عن شهوة صادقة من غير إكراه ولا خديعة { فكلوه } أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم { هنيئاً } أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة { مريئاً * } أي جيد المغبة بهجا ساراً، لا تنغيص فيه، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً. قال الأصبهاني: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: { فإن طبن لكم } [النساء: 4] قال: لو طابت نفسها لما رجعت فيه؛ وعنه قال: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن.

ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه " نعم المال الصالح للرجل الصالح " رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال - لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى: { ولا تؤتوا } أيها الأزواج والأولياء { السفهاء } أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم { أموالكم } أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها { التي جعل الله } أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة { لكم قياما } أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته { وارزقوهم } متجرين { فيها } وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال { واكسوهم } أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال { وقولوا لهم } أي مع ذلك { قولاً معروفاً * } أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه.

السابقالتالي
2 3