الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }

ولما وضح بالحجاج معهم الحق، واستبان بمحو شبههم كلها من وجوه كثيرة الرشدُ، وأوضح فساد طرقهم، وأبلغ في وعيدهم؛ أنتج ذلك صدق الرسول وحقيقة ما يقول: فأذعنت النفوس، فكان أنسب الأشياء أن عمم سبحانه في الخطاب لما وجب من اتباعه على وجه العموم عند بيان السبيل ونهوض الدليل، فقال مرغباً مرهباً { يا أيها الناس } أي كافة { قد جاءكم الرسول } أي الكامل في الرسلية الذي كان ينتظره أهل الكتاب لرفع الارتياب ملتبساً { بالحق } أي الذي يطابقه الواقع، وستنظرون الوقائع فتطبقونها على ما سبق من الأخبار، كائناً ذلك الحق { من ربكم } أي المحسن إليكم، فإن اتبعتم رسوله قبلتم إحسانه، فتمت نعمته عليكم، ولهذا سبب عن ذلك قوله: { فآمنوا }.

ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق توعداً لهم: إن تؤمنوا يكن الإيمان { خيراً لكم } ، عطف عليه قوله: { وإن تكفروا } أي تستمروا على كفرانكم، أو تجددوا كفراً، يكن الكفران شراً لكم، أي خاصاً ذلك الشر بكم، ولا يضره من ذلك شيء، ولا ينقصه من ملكه شيئاً، كما أن الإيمان لم ينفعه شيئاً ولا زاد في ملكه شيئاً, لأن له الغنى المطلق، وهذا معنى قوله: { فإن الله } أي الكامل العظمة { ما في السماوات والأرض } فإنه من إقامة العلة مقام المعلول، ولم يؤكد بتكرير " ما " وإن كان الخطاب مع المضطربين، لأن قيام الأدلة أوصل إلى حد من الوضوح بشهادة الله ما لا مزيد عليه، فصار المدلول به كالمحسوس.

ولما كان التقدير: فهو غني عنكم، وله عبيد غيركم لا يعصونه، وهو قادر على تعذيبكم بإسقاط ما أراد من السماء، وخسف ما أراد من الأرض وغير ذلك، وكان تنعيم المؤالف وتعذيب المخالف وتلقي النصيحة بالقبول دائراً على العلم وعلى الحكمة التي هي نتيجة العلم والقدرة قال: { وكان الله } أي الذي له الاختصاص التام بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً مع أن له جميع الملك { عليماً } أي فلا يسع ذا لب أن يعدل عما أخبر به من أن أمر هذا الرسول حق إذ هو لم يخبر به إلا عن تمام العلم، ولا يخفى عليه عاص ولا مطيع { حكيماً * } فلا ينبغي لعاقل أن يضيع شيئاً من أوامره لأنه لم يضعها إلا على كمال الأحكام، فهو جدير بأن يحل بمخالفه أي انتقام، ويثيب من أطاعه بكل إنعام.

ولما اقتضى السياق الأكمل فيما سبق إتمام أمر عيسى عليه الصلاة والسلام إذ كان الكلام في بيان عظيم جرأتهم وجفاءهم، وكان ما فعلوا معه أدل دليل على ذلك، وكان كل من أعدائه وأحبابه قد ضل في أمره، وغلا في شأنه اليهود بخفضه، والنصارى برفعه؛ اقتضى قانون العلم والحكمة المشار إليهما بختام الآية السالفة بيان ما هو الحق من شأنه ودعاء الفريقين إليه فقال: { يا أهل الكتاب } أي عامة { لا تغلوا في دينكم } أي لا تفرطوا في أمره، فتجاوزوا بسببه حدود الشرع وقوانين العقل { ولا تقولوا على الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له شيئاً من القول { إلا الحق } أي الذي يطابقه الواقع، فمن قال عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لغير رشدة، فقد أغرق في الباطل، فإنه لو كان كذلك ما وقفت أمه للدوام على الطاعات، ولا ظهرت عليها عجائب الكرامات، ولا تكلم هو في المهد، ولا ظهرت على لسانه ينابيع الحكمة، ولا قدر على إحياء الموتى، وذلك متضمن لأن الله تعالى العليم الحكيم أظهر المعجزات على يد من لا يحبه، وذلك منافٍ للحكمة، فهو كذب على الله بعيد عن تنزيهه، ومن قال: إن الله أو ابن الله، فهو أبطل وأبطل، فإنه لو كان كذلك لما كان حادثاً ولما احتاج إلى الطعام والشراب وما ينشأ عنهما، ولا قدر أحد على أذاه ولثبتت الحاجة إلى الصاحبة للإله، فلم يصلح للإلهية، وذلك أبطل الباطل.

السابقالتالي
2 3