الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } * { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت " النساء " لذلك، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد { بسم الله } الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور { الرحمن } الذي جعل الأرحام رحمة عامة { الرحيم * } الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة.

لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً: العلم والشجاعة والعدل والعفة، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آيةنزل عليك الكتاب بالحق } [آل عمران: 3]،وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]،شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } [آل عمران: 18],ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139],فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } [آل عمران: 146]فإذا عزمت فتوكل على الله } [آل عمران: 159],ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [آل عمران: 169]،الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } [آل عمران: 172]،يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } [آل عمران: 200]، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم: { يا أيها الناس } بعد اختتام تلك بخصوص " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا " الآية.

ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها، فكانت في غاية المشقة على النفوس، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال: { اتقوا ربكم } أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس. ابتدأ هذه ببيان كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال: { الذي } جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها، وذلك أنه { خلقكم من نفس واحدة } هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين: هذه وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه، وربت ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر؛ بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال: كيف كان ذلك؟ - إنشاء تلك النفس، أو تكون الجملة حالية - { وخلق منها زوجها } أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء: أمه, فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى, فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه: آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر عن غيرها بالجعل، لخلو السياق عن هذا الغرض، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام

السابقالتالي
2 3 4