الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } * { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } * { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } * { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }

ولما كان التقدير: فأقلعوا عن ذنوبكم، فإنها قاطعة عن الخير، مبعدة عن الكمال، عطف عليه استعطافاً قوله دالاً على أن الغفران المتقدم إنما هو إذا شاء التفضل سبحانه بتوبة وبغير توبة: { وأنيبوا } أي ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم { إلى } ولفت الكلام إلى صفة الإحسان زيادة في الاستعطاف فقال: { ربكم } أي الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه { وأسلموا له } أي أوجدوا إسلام جميع ما ملكه لكم من الأعيان والمعاني متبرئين عنه لأجله فإنه لو شاء سلبكموه، فإذا لم تكونوا مالكيه ملكاً تاماً فعدوا أنفسكم عارية عنه غير مالكة له ولا قادرة، وكان الذي لكم بالإصالة ما كان.

ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها: { من قبل أن يأتيكم } أي وأنتم صاغرون { العذاب } أي القاطع لكل العذوبة المجرّع لكل مرارة وصعوبة. ولما كان الإنسان ربما توقع ضرراً في إقدامه على ما له فيه لذة، وحاول دفعه، قال معظماً لهذا العذاب مشيراً بأداة التراخي إلى أنه لا يمكن دفعه ولو طال المدى: { ثم لا تنصرون * } أي لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً.

ولما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه، أمر بما هو أعلى من ذلك، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال: { واتبعوا } أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع { أحسن ما أنزل } واصلاً { إليكم } على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون " كأنك تراه " الذي هو أعلى من استحضار " إنه يراك " الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.

ولما كان هذا شديداً على النفس، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار: { من ربكم } أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً علة رفقه بإثبات الجار: { من قبل أن يأتيكم } أي على ما بكم من العجز عن الدفاع { العذاب } أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة.

السابقالتالي
2