الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } * { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } * { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ }

ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال: { إن هذا } يشير إلى شخص من الداخلين، ثم أبدل منه قوله: { أخي } أي في الدين والصحبة، ثم أخبر عنه بقوله: { له تسع وتسعون نعجة } ويجوز أن يكون { أخي } هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً { ولي } أي أنا أيها المدعي { نعجة } ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله: { واحدة } ثم سبب عنه قوله: { فقال } أي الذي له الأكثر: { أكفلنيها } أي أعطنيها لأكون كافلاً لها { وعزني } أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي { في الخطاب * } أي الكلام الذي له شأن من جدال وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه، ولم يقنع مني بشيء دون مراده.

ولما تمت الدعوى، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله: { قال } أي على تقدير صحة ما قلت، وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت ولم ينكر مما قال المدعي شيئاً، وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج، كل ذلك تدريباً على التثبت في القضاء وأن لا ينحي نحو القرآئن، وأن لا يقنع فيه إلا بمثل الشمس، وأكد قوله في سياق القسم ردعاً للظالم على تقدير صحة الدعوى بالمبالغة في إنكار فعله لأن حال من فعل شيئاً مؤذن بإنكار كونه ظالماً وكون فعله ظلماً. مفتتحاً لقوله بحرف التوقع لاقتضاء حال الدعوى له: { لقد ظلمك } أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك { بسؤال نعجتك } أي بأن سألك أن يضمها، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله: { إلى نعاجه } بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل: بسؤاله, ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً, ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح للمظلوم: { وإن كثيراً من الخلطاء } أي مطلقاً منكم ومن غيركم { ليبغي } أي يتعدى ويستطيل { بعضهم } عالياً { على بعض } فيريدون غير الحق { إلا الذين آمنوا } من الخلطاء { وعملوا } أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان { الصالحات } أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي { وقليل } وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله: { ما } مثل نعماً ولأمرها { هم } وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه.

ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحداً فوقع في نفسه أنه لا خصومة، وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم ويدربوه عليه، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقاً للوصول إليها أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد، وحاصله أنه تذكر كلام، والمراد به بعض لوازمه، فهو مثل دلالة التضمن في المفردات، وهذا مثل قول سليمان عليه السلام " ائتوني بالسكين أشقه بينهما " وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذباً، وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابقي لمفردات ألفاظه بدليل لغو اليمين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لصفية رضي الله عنها

السابقالتالي
2 3 4 5 6