الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } * { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } * { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } * { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ }

ولما كان السامع يعلم أنهم لا بد وأن لا يجيبوه بشيء، فتشوف إلى ذلك، أجيب بقوله: { قالوا ابنوا له } أي لأجله { بنياناً } أي من الأحطاب حتى تصير كالجبل العظيم، فاحرقوها حتى يشتد لهبها جداً فيصير جحيماً { فألقوه في } ذلك { الجحيم * } أي معظم النار، وهي على أشد ما يكون إيقاداً.

ولما كان هذا مسبباً عن إرادتهم لإهانته قال: { فأرادوا به } أي إبراهيم عليه السلام بسبب هذا الذي عملوه { كيداً } أي تدبيراً يبطل أمره ليعلوا أمرهم ولا يبطل بما أظهر عن عجزهم دينهم { فجعلناهم } أي بعظمتنا بسبب عملهم { الأسفلين * } المقهورين بما أبطلنا من نارهم وجعلناها عليه برداً وسلاماً بضد عادتها في العمل، فنفذ عملنا وهو خارق للعادة وبطل عملهم الذي هو على مقتضى العادة، فظهر عجزهم في فعلهم كما ظهر عجزهم في قولهم، بما أظهرناه من الحجة على لسان خليلنا عليه السلام، وظهرت قدرتنا واختيارنا، وإنما فسرت الكيد بما ذكرت لأنه المكر والخبث والاحتيال والخديعة والتدبير بحق أو باطل والحرب والخوف، فكل هذه المعاني - كما ترى - تدور على التدبير وإعمال الفكر وإدارة الرأي.

ولما كان التقدير: فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد، عطف عليه قوله: { وقال } أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به: { إني ذاهب } أي مهاجر من غير تردد، قالوا: وهو أول من هاجر من الخلق { إلى ربي } أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه.

ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول: من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح، وما تفعل في التوصل إليه؟ قال: { سيهدين * } أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقولهولما جاء موسى لميقاتنا } [الأعراف: 143] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقولهسبحان الذي أسرى بعبده } [الأسراء:1] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات: إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً، ثم أخبر أنه قال { رب أرني } فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعين جمع الجمع - لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل، بل هو المراد إلى أن قال { لنريه من آياتنا } فهذا هو الفناء حتى عن الفناء، ثم قال: { أنه هو السميع البصير } فأثبت له مع ذلك الكمال.

السابقالتالي
2