الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } * { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } * { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ } * { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } * { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } * { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } * { يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } * { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } * { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ }

ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً: { بيضاء } أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله: { لذة للشاربين * } بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة.

ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص فقال: { لا فيها غول } أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك، أو يكون سبباً للهلاك { ولا هم عنها } أي عادة بعد شربها { ينزفون * } أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال، أو ذهب عقله، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم: نزفت الركية، اي ذهب ماؤها، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم: نزف الرجل بالبناء للفاعل, ونزف بالبناء للمفعول بمعنى: ذهب عقله بالسكر, ويحتمل أن تكون من أنزف, وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم: نزف الرجل الخمرة - سواء كان مبنياً للفاعل أو للمفعول - إذا أفناها.

ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع، والخمر أدعى شيء إليه، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال: { وعندهم } نساء من أهل الدنيا وغيرها { قاصرات الطرف } أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها { عين * } أي نجل العيون، جمع عيناء، كسرت عينه لمناسبة الياء.

ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء، قال: { كأنهن بيض } أي بيض نعام { مكنون * } أي مصون من دنس يلحقه، وغبار يرهقه، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال:

كبكر مقاناة البياض بصفرة     غذاها نمير الماء غير المحلل
أي مخالطة البياض المائل إلى الحمرة بصفرة، وهو أصفى الألوان واعدلها، يشابه لون نور القمر.

ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال: { فأقبل بعضهم } أي أهل الجنة بالكلام، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال: { على بعض } أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة، وبين حال هذا الإقبال فقال: { يتساءلون * } أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه - لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع.

السابقالتالي
2