الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } * { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } * { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } * { وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } * { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } * { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } * { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

ولما كان الذي سبق ادعاؤه أمرين أحدهما أن هؤلاء المنذرين يسارعون في اقتفاء آثار آبائهم في الضلال، والثاني أن أكثر الأولين ضلوا، وسيقت دليلاً شهودياً على الثاني هذه القصص الست التي ما اهتدى من أهلها أمة بكمالها إلا قوم يونس عليه السلام، كان ذلك سبباً للأمر بإقامة الدليل على ضلال هؤلاء تبعاً لآبائهم بأمر ليس في بيان الضلال أوضح منه، فقال متهكماً بهم مخصصاً الأمر به صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عظم هذه النتيجة وأنه لا يفهمها حق فهمها سواه صلى الله عليه وسلم: { فاستفتهم } أي فاطلب من هؤلاء الذين يعرضون عن دعوتك إلى أباطيلهم أن يجيبوك فتوة منهم وكرماً: بأي دليل وبأي حجة حكموا بما يقولونه تبعاً لآبائهم في الملائكة الذين تقدم في فاطر أنهم رسل الله، وفي يس أنهم في غاية الشدة بحيث إن عذاب الأمة الكثيرة يكفي فيه واحد منهم، وبحيث إن صيحة واحده من أحدهم يميت الأحياء كلهم، وصيحة أخرى يحي الأموات كلهم، هذا إلى ما أفادته هذه السورة لهم من الصف والزجر والتلاوة حين ابتدأت بالإقسام بهم لأن لمقصودها نظراً عظيماً إلى أحوالهم في تجرديهم وتقديسهم، ويلزم من هذا الاستفتاء تنزيههم وتنزيه الذي خلقهم وذلك مقصود السورة، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى ما هو دليل عليها فإن الرسول دال على قدر من أرسله فقال: { ألربك } أي خاصة وهو الملك الأعلى الذي رباك وأحسن إليك بهدايتك والهداية بك وغير ذلك من أمرك حتى كنت أكمل الخلق وأعلاهم في كل أمر يكون به الكمال والقرب من الله فاصطفاك لرسالته، ففي إفراد الضمير إشارة إلى أنه لا يختار إلا الأكمل الأشرف الأفضل.

ولما كان المراد تبكيتهم بكونهم جعلوا الأخس لله، وكانت الإناث أضعف من الذكور، ولكنها قد تطلق الأنوثة على غير الحيوان، وكانت الإناث في بعض الأجناس كالأسحار أشرف، عدل عن التعبير بالإناث وعبر بما ينص على المراد فقال: { البنات } أي دون البنين، وهم - مع أنهم مربون مقهورون - يأنفون منهم غاية الأنفة { ولهم } أي دونه { البنون * } مع أن الرب الذي خصوه بأدنى القبيلين تارة يخلق الذكر من تراب ويربيه أحسن تربية، وأخرى من غيره أو يخرجه من بطن حوت أو غمرات نار أو غير ذلك، فبأي وسيلة ادعوا له ولداً والولد لا يكون إلا بالتدريج في أطوار الخلق من النطفة إلى ما فوقها، ولا يرضى بذلك إلا عاجز فكيف بادعاء أدنى الصنفين من الولد، سبحان ربك رب العزة.

ولما كان دعواهم لأنوثة الملائكة متضمنة لادعاء العلم باختصاصه عند دعوى الولدية بأدنى القبيلتين أو ادعاء العلم بأنه خلقهم إناثاً بمشاهدة منهم أو كتاب منه إليهم، وأما العقل فإنه لا مدخل له في ذلك، قال معلماً بأنهم أهل لأن يبكتوا ويستهزأ بهم لأنه لا علم عندهم بإحدى الطريقين، ولا يقدرون أن يدعوا ذلك لئلا يفتضحوا فضيحة لا تنجبر أصلاً، عائداً إلى التصريح بمظهر العظمة التي إن لم يقتض اختيار الأكمل لم يقتض الاختصاص بالأدون لأنها منافية بكل اعتبار للدناءة { الملائكة } أي الذين حكموا عليهم بالأنوثة، وهم من أعظم رسلنا وأجل خواصنا ولم يروا منهم أحداً ولا سبيل لهم إلى العلم بأحوالهم باعترافهم بذلك، ولما تعين أن المراد بالأنوثة الخساسة، وكان في بعض الإناث قوة الذكور، عبر بالأنوثة إلزاماً لهم في حكمهم ذلك بخساستين فقال: { إناثاُ وهم } أي والحال أن هؤلاء الذين ينسبون إلى الله ما لا يليق به { شاهدون * } أي ثابت لهم شهود ذلك لا يغيبون عنه، فإنا كل يوم نجدد منهم من شئنا، قال الرازي: وكل واحد من الملائكة نوع برأسه، أما الآدميون فكلهم نوع واحد، وهو ناقص في ابتداء الفطرة، مستكمل، وله درجات في الترقي إلى أن يبلغ مقام المشاهدة، وهو أن تتجلى له حلية الحق الأول من ذاته وصفاته وترتيب أفعاله علماً لا ينفصل عنه ولا يغيب فيترقى في إدراكه عن المحسوسات والخيالات، ويترقى فعله عن أن يكون لمقتضى الغضب أو الشهوة، وبهذا يقرب من الله تعالى - انتهى.

السابقالتالي
2 3