الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } * { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } * { وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ } * { وَآتَيْنَاهُمَا ٱلْكِتَابَ ٱلْمُسْتَبِينَ } * { وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي ٱلآخِرِينَ } * { سَلاَمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } * { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ }

ولما ذكر هؤلاء السادة الذين لهم من رتبة التجرد والنزاهة ما تقدم بيانه، وختمهم بأخوين ما اجتمعا قط، وكان من أعظم المقاصد بذكرهم المنة على من اتصف بمثل صفاتهم بالقرب والنصرة تسلية وترجية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه من المؤمنين ممن قارب - من شدة البلاء والقهر - اليأس من النصر، أتبعهم بأمثالهم في التجرد وابتدأهما بأخوين افترقا حين ولادة الثاني على حالة لا يمكن الاجتماع معها عادة، ثم اجتمعا في الباطن مع الافتراق في الظاهر ثم افترقا على حالة يبعد الاجتماع معها عادة ثم اجتمعا اجتماعاً لم يفترقا منه إلا بالموت وبدأهما بأول من تجرد منهما من حين ولادته إلى أوان هجرته، ثم من حين رجعته إلى أن جرد آله - وهم بعض ذرية إبراهيم عليه السلام - وأنقذهم من علائق الكفرة، ثم تجرد معهم هو وأخوه عن المدن والقرى وأكثر علائق البشر، ملازمين البراري والفلوات حيث يكثر ظهور الكلمة مع إرسال الله إليهما بمعادن الحكمة إلى أن ماتا عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يعد نصر المؤمنين محالاً، عاطفاً على ما تقديره: فلقد أنشأنا منهما من الأمم ما يعجز الوصف ويفوت الحصر، ومننا على كثير منهم بالإحسان من ولد إسماعيل عليه السلام إلى أن غير دينه عمرو بن لحي، ومن ولد إسحاق يعقوب والأسباط عليهم السلام ومن شاء الله من أولادهم: { ولقد مننا } أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به بما لنا من العظمة، على أول من أظهر لسان الصدق لإبراهيم عليه السلام وذريته اظهاراً تاماً. وبدأهما بأعرقهما - كما تقدم - في التجرد وأحقها بالتقدم فقال: { على موسى } أحد أعيان المتجردين، ومن له القدم الراسخ في ذلك { وهارون* } أي عين من تجرد مع أخيه ووافقه أتم موافقة، ووازره أعظم موازرة، بما أتيا به من النبوة والكتاب وغير ذلك من أنواع الخطاب.

ولما كان جل المقصود - كما مضى - مقام التجرد، والإعلام بنصر المستضعفين من المؤمنين، قال: { ونجيناهما وقومهما } أي بني إسرائيل وقد كانوا مرت لهم دهور في ذل لا يقاربه ذل المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أول أمرهم { من الكرب العظيم * } أي الاستبعاد، وما يتبعه من عظائم الأنكاد، وكان ذلك بهلاك القبط الذين استمروا على الضلال، وهم أضعاف أضعاف بني إسرائيل، إلى أن أهلكناهم فلم يفلت منهم إنسان، فصح لبني إسرائيل حينئذ التجرد وزال عنهم ذل التجبر والتمرد.

ولما بين نعمة النجاة من الأسر، أتبعها نعمة الالتذاذ بالنصر، فقال: { ونصرناهم } أي موسى وهارون عليهما السلام وقومهما على كل من نازعهم في ذلك الزمان من فرعون وغيره { فكانوا هم } أي خاصة { الغالبين * } أي على كل من يسومهم سوء العذاب، وهو فرعون وآله وعلى جميع من ناووه أو ناواهم، فاحذروا يا معشر قريش والعرب من مثل ذلك، ولقد كان ما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعظم ما يمكن أن يكون إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لما كان نبي الرحمة لين الله قلوبهم حتى ردهم إلى ما اغتبطوا به من متابعته، فصاروا به ملوك الدنيا والآخرة.

السابقالتالي
2