الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } * { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } * { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

ولما كان موطناً يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه، استأنف قوله مخاطباً من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره: { قل } أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلاً منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء، وأعاد فعل الإحياء نصاً على المراد دفعاً للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال: { يحييها } أي من بعد أن بليت ثاني مرة، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال: { الذي أنشأها } أي من العدم ثم أحياها { أول مرة } أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته { وهو بكل خلق } أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة { عليم * } أي بالغ العلم، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلاً وإن تفرقت في البر والبحر، ولا شيء غير ذلك، فالآية من بديع الاحتباك: الإحياء أولاً دال على مثله ثانياً، والإنشاء ثانياً دال على مثله أولاً، و { أول مرة } في الثاني دال على " ثاني مرة " في الأول، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلاً، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معاً النهاية التي ليس وراءها بيان، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعناً بقوله: { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } { من بعثنا من مرقدنا } { فإذا هم جميع لدينا محضرون } { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون }.

ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء - إذا صار تراباً واختلط بالتراب - عن غيره من التراب، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه، فقال معيداً للوصول تنبيهاً على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حياً: { الذي جعل لكم } أي متاعاً واستبصاراً { من الشجر الأخضر } الذي تشاهدون فيه الماء { ناراً } بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهو أنثى - فتخرج النار! قال أبو حيان: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب - انتهى.

السابقالتالي
2 3