الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } * { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال:واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً } [مريم: 81] قال مستنتجاً من ذلك: { من كان } أي في وقت من الأوقات { يريد العزة } أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب { فلله } أي وحده { العزة جميعاً } أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها, ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي: وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز ".

ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: { إليه } أي لا إلى غيره { يصعد الكلم الطيب } أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه.

ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: { والعمل الصالح يرفعه } هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى، وقد قيل:

لا ترض من رجل حلاوة قوله    حتى يصدق ما يقول فعال
فـإذا وزنـت مقالـه بفعـالـه   فتوازنـا فإخـاء ذاك جمـال
ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: { والذين يمكرون } أي يعملون على وجه الستر المكرات { السيئات } أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة { لهم عذاب شديد } كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة. ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: { ومكر أولئك } أي البعداء من الفلاح { هو } أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى:ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر { يبور * } أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك: حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء, وحذف وضعه المكر السيىء ودل عليه برفعه للعمل الصالح.

السابقالتالي
2 3 4