الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } * { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ }

قوله { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال من الخلق والأمر كله مطلقاً في الأولى الأخرى وغيرهما مما يمكن أن يكون ويحيط به علمه سبحانه { لله } ذي الجلال والجمال.

ولما كان هذا هو المراد، وصفه بما يفيد ذلك، فقال منبهاً على نعمة الإبداء والإبقاء أولاً: { الذي له } أي وحده مِلكاً ومُلكاً وإن نسبتم إلى غيره ملكاً وملكاً ظاهرياً { ما في السموات } أي بأسرها { وما في الأرض } أي كما ترون أنه لا متصرف في شيء من ذلك كمال التصرف غيره، وقد علم في غير موضع وتقرر في كل فطرة أنه ذو العرش العظيم، فأنتج ذلك أن له ما يحويه عرشه من السماوات والأراضي وما فيها، لأن من المعلوم أن العرش محيط بالكل، فالكل فيه، وكل سماء في التي فوقها، وكذا الأراضي، وقد تقرر أن له ما في الكل، فأنتج ذلك أن له الكل بهذا البرهان الصحيح، وهو أبلغ مما لو عبر عن ذلك على وجه التصريح، وإذ قد كان له ذلك كله فلا نعمة على شيء إلا منه، فكل شيء يحمده لما له عليه من نعمه بلسان قال، فإن لم يكن فبلسان حاله.

ولما أفاد ذلك أن له الدنيا وما فيها، وقد علم في آخر الأحزاب أن نتيجة الوجود العذاب والمغفرة، ونحن نرى أكثر الظلمة والمنافقين يموتون من غير عذاب، وأكثر المؤمنين يموتون لم يوفوا ما وعدوه من الثواب، ونعلم قطعاً أنه لا يجوز على حكيم أن يترك عبيده سدى يبغي بعضهم على بعض وهو لا يغير عليهم، فأفاد ذلك أن له داراً أخرى يظهر فيها العدل وينشر الكرم والفضل، فلذلك قال عاطفاً على ما يسببه الكلام الأول من نحو: فله الحمد في الأولى، وطواه لأجل خفائه على أكثر الخلق، وأظهر ما في الآخرة لظهوره لأنها دار كشف الغطاء، فقال منبهاً على نعمة الإعادة والإبقاء ثانياً: { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بالكمال { في الآخرة } ظاهراً لكل من يجمعه الحشر، وله كل ما فيها، لا يدعي ذلك أحد في شيء منه لا ظاهراً ولا باطناً، فكل شيء فيها لظهور الحمد إذ ذاك بحمده كما ينبغي لجلاله بما له عليه من نعمة أقلها نعمة الإيجاد حتى أهل النار فإنهم يحمدونه بما يحبب إليهم في الدنيا من إسباغ نعمه ظاهرة وباطنة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل على وجه ما أبقى فيه للتحبب موضعاً في دعائهم إليه وإقبالهم عليه، وبذل النصيحة على وجوه من اللطف كما هو معروف عند من عاناه، فعلموا أنهم هم المفرطون حيث أبوا في الأولى حيث ينفع الإيمان، واعترفوا في الآخرة حيث فات الأوان { وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش } - الآيات، وأيضاً فهم يحمدونه في الآخرة لعلمهم أنه لا يعذب أحداً منهم فوق ما يستحق وهو قادر على ذلك، ولذلك جعل النار طبقات، ورتبها دركات، فكانوا في الأولى حامدين على غير وجهه، فلم ينفعهم حمدهم لبنائه على غير أساس، وحمدوا في الآخرة على وجهه فما أغنى عنهم لكونها ليست دار العمل لفوات شرطه، وهو الإيمان بالغيب، والآية من الاحتباك: حذف أولاً " له الحمد في الأولى " لما دل عليه ثانياً، وثانياً " وله كل ما في الآخرة " لما دل عليه أولاً، وقد علم بهذا وبما قدمته في النحل والفاتحة أن الحمد تارة يكون بالنظر إلى الحامد، وتارة بالنظر إلى المحمود، فالثاني اتصاف المحمود بالجميل، والأول وصف الحامد له بالجميل، فحمد الله تعالى اتصافه بكل وصف جميل، وحمد الحامد له وصفه بذلك، فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده سواء أنطق لسان القال بذلك أم لا، وهو محمود قبل تكوينها، وذلك هو معنى قولي الإحاطة بأوصاف الكمال، وحمد غيره له تارة يطلق بالمدلول اللغوي، وتارة بالمدلول العرفي، وتحقيق ما قال العلماء في ذلك في نفسه وبالنسبة بينه وبين الشكر أن الحمد في اللغة هو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم، ومورده اللسان وحده فهو مختص بالظاهر ومتعلقه النعمة وغيرها، فمورده خاص ومتعلقه عام، والشكر لغة على العكس من ذلك متعلقه خاص ومورده عام، لأنه فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب إنعامه فمورده الظاهر والباطن لأنه يعم اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة الواصلة إلى الشاكر، ومن موارده القلب وهو أشرف الموارد كلها، لأنه فعله وإن كان خفياً يستقل بكونه شكراً من غير أن ينضم إليه فعل غيره بخلاف الموردين الآخرين، إذ لا يكون فعل شيء منهما حمداً ولا شكراً حقيقة ما لم ينضم إليه فعل القلب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7