الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }

ولما كان التقدير: يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون، عطف عليه قوله: { ومن أظلم } منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال: { ممن ذكر } أي من أيّ مذكر كان وصرف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال: { بآيات ربه } أي الذي لا نعمة عنده إلا منه.

ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده، عبر عنه بأداة البعد لذلك فقال: { ثم أعرض عنها } ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون " ثم " على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب.

ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ " من " تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد، قال جامعاً لأن إهانة الجمع دالة على إهانة الواحد من باب الأولى، مؤكداً لإن إقدامهم على التكذيب كالإنكار لأن تجاوزوا عليه، صارفاً وجه الكلام عن صفة الإحسان إيذاناً بالغضب: { إنا } منهم، هكذا كان الأصلي، ولكنه أظهر الوصف نصفاً في التعميم وتعليقاً للحكم به معيناً لنوع ظلمهم تبشيعاً له فقال: { من المجرمين } أي القاطعين لما يستحق الوصل خاصة { منتقمون } وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين؟ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد.

ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أن العظيم لا يرد شيء من أمره: { ولقد آتينا } على ما لنا من العظمة { موسى الكتاب } أي الجامع للأحكام وهو التوارة.

السابقالتالي
2