الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } * { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } * { وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }

ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر، فدل ذلك على شمول القدرة، وكان شامل القدرة لا بد وأن يكون محيط العلم، كانت نتيجته لا محالة: { ذلك } أي الإله العالي المقدار، الواضح المنار { عالم الغيب } الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق.

ولما قدم علم الغيب لكونه، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال: { والشهادة } من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك { العزيز } الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء. ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال: { الرحيم } أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام.

ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها، أشار إلى صفة الرحمانية فقال: { الذي أحسن كل شيء } ولما كان هذا الإحسان عاماً، خصه بأن وصفه - على قراءة المدني والكوفي - بقوله: { خلقه } فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير، وشق المشاعر، وتهيئة المدارك، وإفاضة المعاني، مع المفاوتة في جميع ذلك، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين، وعبر بالحسن لأن ما كان على وجه الحكمة كان حسناً وإن رآه الجاهل القاصر قبيحاً.

ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث: { وبدأ خلق الإنسان } أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن { من طين } أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.

ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمراً هائلاً، أشار إليه بأداة البعد في قوله: { ثم جعل نسله } أي ولده الذي ينسل أي يخرج { من سلالة } أي من شيء مسلول، أي منتزع منه { من ماء مهين } أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله: { ثم سواه } أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني { ونفخ فيه من روحه } الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.

ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً: { وجعل } أي بما ركب في البدن من الأسباب { لكم السمع } أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً { والأبصار } تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.

السابقالتالي
2