الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } * { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ } * { خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }

ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال، الموجبة للكمال، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها، بعد أن زمها بزمامها، فقال: { أولئك } أي العالوا الرتبة الحائزون منازل القربة أعظم رتبة { على هدى } أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال: { من ربهم } تذكيرا لهم بأنه لولا إحسانه ما وصلوا إلى شيء. ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب، خوفاً من الإعجاب { وأولئك هم } أي خاصة { المفلحون * } أي الظافرون بكل مراد.

ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفاً على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال: { ومن } ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة. أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من { الناس } الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلاً عن مقام أولي الإحسان.

ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: { من يشتري } أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به { لهو الحديث } أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً، وقال مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال ابن مسعود: اللهو الغناء، وكذا قال ابن عباس وغيره.

ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: { ليضل } من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى { عن سبيل الله } أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.

السابقالتالي
2 3 4