ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعاً هواه مقلداً مثله قطعاً، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجباً، عجب منهم تعجيباً آخر بإقامتهم على الضلال مع إيضاح الادلة فقال: { وإذا قيل } أي من أيّ قائل كان. ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى، أفرد أولاً وجمع هنا فقال: { لهم } أي للمجادلين هذا الجدال: { اتبعوا ما } أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال: { أنزل الله } الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، وهو الذي لا عظيم إلا هو { قالوا } جموداً: لا نفعل { بل نتبع } وإن جاهدنا بالأنفس والأموال { ما وجدنا عليه آباءنا } لأنهم أثبت منا عقولاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً. ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: { أو لو كان الشيطان } أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليللهم فهو { يدعوهم } إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك { إلى عذاب السعير* } وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه. ولما كان التقدير: فمن جادل في الله فلا متمسك له، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم: { ومن يسلم } أي في الحال أو الاستقبال { وجهه } أي قصده وتوجهه وذاته كلها. ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة، عدى الفعل بـ " إلى " تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك، فقال معلقاً بما تقديره: ساتراً وواصلاً { إلى الله } الذي له صفات الكمال، فلم يبق لنفسه أمر أصلاً، فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه { وهو } أي والحال أنه { محسن } أي مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره, فهو دائماً في حال الشهود { فقد استمسك } أي أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوة في بادئه الأمور لترقية نفسه من حضيضها إلى أوج الروح على أيدي المسلكين الذين اختارهم لدينه، العارفين بأخطار السير وعوائق الطريق { بالعروة الوثقى } التي هي أوثق ما يتمسك به فلا سقوط له أصلاً، فليسررك شكره فإن ربه يعليه إلى كل مراد ما دام متمسكاً بها تمثيلاً لحال هذا السائر بحال من سقط في بئر، أو أراد أن يرقى جبلاً، فادعى له صاحبه حبلاً ذا عرى فأخذ بأوثقها، فهو يعلو به إذا جره صديقه. وهو قادر على جره لا محالة من غير انفصام، لأن متمسكه في غاية الإحكام. ولما كان الكل صائرين إليه، رافدين عليه: من استمسك بالأوثق، ومن استمسك بالأوهى، ومن لم يتمسك بشيء، إلا أن الأول صائر مع السلامة، وغيره مع العطب، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره: فيصير إلى الله سالماً، فإلى الله عاقبته لا محال: { وإلى الله } أي الملك الأعظم وحده تصير { عاقبة الأمور * } أي كما أنه كانت منه بادئتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة.