الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ الۤـمۤ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } * { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده، وأثبت أنه الحق، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر: { بسم الله } الذي وسع رحمة وعلماً { الرحمن } الذي بث بعموم حكمته شامل نعمته في سائر بريته { الرحيم * } الذي أنار لخاصته طريق جنته، فداموا وهاموا في محبته.

لما ختمت الروم بالحث على العلم، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف، وكان ذلك هو الحكمة، قال أول هذه: { آلم } مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه ظاهر مع أن الباطن - جبرائيل عليه السلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام، فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله: { تلك } أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل، والتحلي بسائر الفضائل { آيات الكتاب } الجامع لجميع أنواع الخير { الحكيم } بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقض شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء ومن كلامه، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته، وشمول عظمته وقدرته، ودقيق صنائعه في بديع حكمته، فلا بد من نصر المؤمنين ومن داناهم في التمسك بكتاب له أصل من عند الله.

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه:أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [الروم: 8] وقوله:أو لم يسيروا في الأرض } [الروم: 9] وقوله:الله يبدؤا الخلق ثم يعيده } [الروم: 11] وقوله:يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } [الروم: 19] إلى قوله:كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } [الروم: 28] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله:ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [الروم: 58] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق: { الۤـمۤ تلك آيات الكتاب الحكيم } أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به، واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } - الآيات، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند، ويقطع بكل جاحد، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء، ثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها، ثم قال سبحانه { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } ثم اتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } - الآية، لتأسيس من اتبع فطرة الله التي تقدم ذكرها في سورة الروم، ثم تناسق الكلام وتناسج - انتهى.

السابقالتالي
2