الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ }

ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم، ولا دليل عقلي ظاهر، ولا أمر من الله قاهر، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول، لمح هنا، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة، والدلالة الشهودية المستقرة، فقال عاطفاً على { وإذا مس } دالاً على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول: { وإذا } معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال: { أذقنا } وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال: { الناس رحمة } أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا { فرحوا بها } أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها، ناسين شكر من أنعم بها، وقال: { وإن } بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً، وقال: { تصبهم } غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه { سيئة } أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه.

ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها: { بما قدمت أيديهم } أي من المخالفات، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها { إذا هم } أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم { يقنطون* } أي فاجاؤوا البأس، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً، ولذلك أنكر عليه عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلاً: { أولم يروا } أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم.

ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال: { أن الله } بجلاله وعظمته { يبسط الرزق } أي يكثره { لمن يشاء } أي من عباده منهم ومن غيرهم { ويقدر } أي يضيق، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا، بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء، فقد عرف من حالهم أنهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة.

السابقالتالي
2 3 4